السودان بعد رفع العقوبات
مناخ جديد للأعمال

08.02.2017
الوزير بدر الدين محمود عباس
الوزير مدثر عبد الغني
سعود مأمون البرير
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
رشيد حسن

يشكّل قرار رفع العقوبات الأميركية جزئياً عن السودان فرصة لإعادة الاندماج بالاقتصاد العالمي والتمهيد لاستيعاب تدريجي لأضرار الحصار الظالم، وتهيئة البيئة المناسبة للإستفادة من الموارد الطبيعية الضخمة واستقطاب الاستثمارات العربية والأجنبية،  كما يفتح المجال للحصول على دعم الدول الشقيقة والصديقة والمؤسسات الدولية.وفي المقابل فإن القرار يشكّل حافزاً للمبادرة إلى وضع وتنفيذ برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري واعتماد المعايير الدولية في الحوكمة والشفافية، ومعالجة الملفات المتراكمة التي ربما كانت معالجتها صعبة نسبياً في ظل الحصار.

يعود السودان إلى الاندماج بالعالم وتنفيذ برامج الإصلاح، متسلحاً بخبرة مهمة اكتسبها من تجربة رفع العقوبات وكيفية التعامل مع منظومة معقدة من القوانين والمعايير الأميركية والدولية مثل الإنضمام الى الجهد الدولي لمكافحة الإرهاب وتبييض الأموال وإعادة تنظيم القطاع المالي والمصرفي وتنسيق خططه الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي، يضاف إلى ذلك الدعم المتوقع من السعودية وبقية الدول الخليجية ومؤسسات التنمية.

ويكشف، في هذا السياق، وزير المالية والتخطيط الاقتصادي بدر الدين محمود عباس أنه «ستتم مراجعات شاملة لكافة السياسات الاقتصادية الكلية، فهناك خطة شاملة لترتيب البيت الداخلي ومراجعة السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والاستثمارية... فالخطوة الأميركية ستحدث إنقلاباً اقتصادياً وتجارياً كبيراً».

وهو ما يؤكده وزير الاستثمار مدثر عبدالغني بقوله إن رئيس الجمهورية عمر حسن البشير «وجّه دعوة بإعادة صياغة البرنامج الاقتصادي وفقاً لمعطيات رفع الحظر وإلغاء العقوبات الأميركية، وقد بدأنا في إعادة صياغة المشروعات الاستثمارية في ظل رؤية انفتاحية كبيرة لاستقبال الشركات العالمية العملاقة، ولاسيما الأميركية منها»، متوقعاً حدوث طفرة توسعية وزيادة حجم الاستثمارات خلال الفترة المقبلة».

خمسة تطورات

جاء القرار الأميركي تتويجاً لجهود تمت على مدى السنتين الأخيرتين بين حكومة الخرطوم وإدارة الرئيس السابق أوباما وأدت إلى تقارب متزايد بين الطرفين تمثّل في تطورات استراتيجية أهمها:  

 إنضمام السودان إلى الجهود السعودية والخليجية في التصدّي للمدّ الإيراني إلى حدّ إرسال قوات مقاتلة وطائرات إلى الجبهة اليمنية ثم قيام السودان بقطع العلاقات مع طهران في العام الماضي.

 مشاركة السودان بصورة فعالة في الجهود الرامية لمحاربة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وهذه المشاركة نوّه بها تقرير وزارة الخارجية الأميركية حول الإرهاب بصورة جليّة.

 إنخراط البنك المركزي السوداني والمصارف والمؤسسات المالية السودانية بصورة فعالة في الجهود الدولية الرامية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهذه المشاركة نوّه بها صندوق النقد الدولي في تقرير عن السودان صدر في أواخر العام 2016 وكان من نتيجته رفع إسم السودان عن «اللائحة الرمادية» للدول غير المتعاونة بصورة كافية مع «القوة المالية الدولية» FATF وهو إنجاز مهم خصوصاً إذا علمنا أن دولاً مثل تركيا وباكستان وإندونيسيا مدرجة على تلك اللائحة. 

 قيام الحكومة السودانية بتهدئة النزاعات الداخلية في ولايات دارفور وكردوفان والنيل الأزرق مع وقف الأعمال العسكرية وبدء السعي للتوصل إلى حلول سودانية سلمية لتلك النزاعات.

 هناك أيضاً إعتبار استراتيجي أميركي يتعلق بمواجهة التمدد الصيني المستمر في القارة الأفريقية بما في ذلك السودان حيث حققت الصين مكاسب كبيرة في محاولتها ملء الفراغ الذي تركته العقوبات الأميركية. 

ملف الديون الخارجية أولوية المرحلة المقبلة

نتائج إيجابية فورية

من أهم العقوبات التي تمّ رفعها حظر التعامل المالي والمصرفي مع السودان الذي أدى إلى تجميد قدرة البلد على استخدام النظام المصرفي الدولي والتعامل مع مصارف مراسلة في السوق المالية الأميركية، وسيؤدي هذا التطور إلى خفض كبير في تكلفة الإنتاج والتمويل والاستيراد وبالتالي معدل التضخم الذي كان قد بلغ نسبة 30.5 في المئة في نهاية شهر ديسمبر 2016، كما إن الإجراء انعكس تحسناً فورياً في سعر صرف الجنيه السوداني الذي ارتفع بنسبة 28 في المئة في التعاملات الموازية من 19.4 جنيه للدولار إلى نحو 14 جنيهاً للدولار (مقابل السعر الرسمي للبنك المركزي السوداني وهو 6.6667 جنيهات للدولار). 

وشمل القرار الأميركي رفع الحظر عن التعامل مع قطاع النفط والغاز والخدمات الحقلية ونشاطات الاستكشاف والتطوير وصناعة البتروكيماويات وعن التعاملات التجارية بين أميركا والسودان وهذه السلسلة من القيود الشديدة كبّلت قدرة الاقتصاد السوداني على النمو وكبّدت الاقتصاد السوداني على مدى 20 عاماً خسائر تقدرها الحكومة السودانية بنحو 500 مليار دولار.

شراء الوقت.. بالذهب والنفط

رغم امتداد العقوبات لعقدين كاملين فإن الاقتصاد السوداني تمكّن من التكيّف مع آثارها السلبية بفضل صادرات النفط التي بدأت في العام 1999 وساهمت في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بثمانية أضعاف إلى 97 مليار دولار وفق بيانات البنك الدولي. ويمتلك السودان حسب تقديرات شركة BP النفطية احتياطاً نفطياً قدره  1.5 مليار برميل من النفط (بعد خسارة ثلاثة أرباع الاحتياط النفطي لصالح دولة جنوب السودان). ويبلغ إنتاج السودان من النفط نحو 255 ألف برميل يومياً كما إن البلاد تنتج ما بين 75 و90 طناً من الذهب سنوياً أو ما تعادل قيمته السوقية ما بين  2.9  و3.5 مليارات دولار، وهو ما يضع السودان بين أكبر الدول في إنتاج الذهب في العالم، كما يمتلك السودان مساحات هائلة من الأراضي القابلة للزراعة وموارد مائية وفيرة وهو يحتوي على أكبر الثروات الحيوانية في أفريقيا ويحتل المرتبة السابعة في العالم في عدد الماشية (38 مليون رأس) بعد الهند والبرازيل والصين والولايات المتحدة والأرجنتين وإثيوبيا.

مشكلة التصنيف 

إن رفع العقوبات المالية والتجارية يعطي السودان متنفساً مهماً، لكنه لا يتضمّن تسوية تامة للملف لأنه لم يشمل رفع إسم السودان عن لائحة وزارة الخارجية الأميركية للدول الداعمة للإرهاب، وهذا على الرغم من أن رفع العقوبات استند إلى واقع تعاون السودان بصورة تامة مع واشنطن والمؤسسات الدولية في هذا المجال، فما هو المبرر الأميركي لإبقاء السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب؟ وهل تستهدف واشنطن الضغط على الخرطوم لقطع ما تبقى من العلاقات مع منظمة حماس؟ 

مهما يكن، فإن رفع العقوبات الأميركية يفتح الطريق لإستعادة العلاقات التجارية والدبلوماسية الأميركية مع الخرطوم، وبما أن وزارة الخارجية الأميركية ستعود إلى تقييم الملف السوداني بعد ستة أشهر، فإن تلك المراجعة قد تتم آنذاك مع العلم أن مثل هذا الأمر يتوقف الآن على الخيارات التي سيتخذها الرئيس ترامب بشأن السودان والسياسة الأميركية في قارة أدى الغياب الأميركي فيها إلى توسع مستمر وشامل للصين خصوصاً في قطاعات الطاقة والمعادن والموارد الطبيعية.  

وقد يرى الرئيس الأميركي في الانفراج الحالي فرصة لتعزيز موقع الولايات المتحدة والشركات الأميركية في قطاعات النفط والزراعة والثروة الحيوانية في السودان فضلاً عن الموقع الاستراتيجي له في القرن الأفريقي وعلى البحر الأحمر، كما إن وجود الرئيس السابق لشركة إكسون موبيل (التي تعمل إحدى شركاتها الفرعية في السودان) على رأس وزارة الخارجية الأميركية يمكن أن يعزز المرونة الأميركية ويدفع إلى تسوية أوسع. 

ويرى رئيس الاتحاد العام لأصحاب العمل السوداني سعود مأمون البرير أن «رفع الحظر الأميركي يعني بداية مرحلة جديدة للاقتصاد السوداني ونقلة كبيرة وجديدة للقطاع الخاص والمصارف باعتبارهما أكبر المستفيدين من الخطوة، وسيهيئ المناخ لمرحلة النمو الاقتصادي في كافة القطاعات عقب الخروج من مرحلة الحصار الاقتصادي التي أثرت بشكل كبير على مسيرة الاقتصاد، كما ستسهم هذه الخطوة في تشجيع الشركات العالمية الكبرى على الدخول في استثمارات كبرى، وفتح المنافذ للقطاع الخاص لاستقطاب التمويل الطويل والمتوسط الأجل من مؤسسات وصناديق ومصارف التمويل العالمية والإقليمية للمشروعات الاستثمارية الكبرى».

توقُّع طفرة استثمارية في قطاعات النفط والذهب والزراعة

ملف الديون 

حسب تقرير للبنك الدولي صدر في أكتوبر 2016، فإن السودان يعتبر مثقلاً بالديون الخارجية التي بلغت في نهاية 2014 نحو 43 مليار دولار، من بينها نحو 85 في المئة تُعدُّ ديوناً متعثرة أي توقف السودان عن خدمتها منذ مدة طويلة. إن وجود هذا الملف الضخم من الديون المتعثرة يجعل السودان غير مؤهل للحصول على قروض جديدة من المصادر الدولية التي تمنع قوانينها تقديم تسهيلات جديدة لأي بلد ممتنع عن تسديد الدين، مما يعطي لموضوع تسوية ملف الديون السودانية الخارجية طابع الأولوية في المدى القريب، ويعتبر السودان من الدول المؤهلة للإستفادة من الإعفاء من الديون بموجب مبادرة البنك الدولي الخاصة بـ «الدول الفقيرة الأكثر استدانة» Heavily Indebted Poor Countries فضلاً عن إمكان إعادة جدولة قسم من الديون، ويتوقع لذلك أن يبدأ السودان محاولة التوصل إلى إتفاقات مع كبار الدائنين حول موضوع الإعفاء من الديون وذلك بالتنسيق مع حكومة جنوب السودان (نظراً الى أن قسماً كبيراً من الديون ترتّب على السودان قبل انفصال الجزء الجنوبي)، ويتوقع أن تلعب بعض الدول المؤثرة وكذلك إدارة البنك الدولي وبعض مؤسسات تمويل التنمية دوراً أساسياً في معالجة الملف، وبالتالي مساعدة السودان على استعادة الأهلية للحصول على القروض التي يحتاجها لتمويل برامج التنمية ولاسيما الخطة الخمسية للتنمية والإصلاح التي تمّ  إقرارها بإشراف من صندوق النقد الدولي في أواخر العام 2014.

الإصلاح 

من الملفات الملحّة أيضاً لضمان الاستفادة من فرصة رفع العقوبات، يبرز ملف الإصلاح وضرورة وضع وتنفيذ برنامج متكامل للإصلاح الاقتصادي والإداري والعمل على تحقيق الاستقرار في السياسات الاقتصادية والمالية، إضافة إلى تهيئة بيئة ملائمة للاستثمار من الناحيتين التشريعية والتنظيمية. ومما لا شك فيه أن العقوبات الظالمة على مدى عشرين عاماً قد أضرّت بالسودان، لكنها لم تكن السبب الوحيد لمشكلات السودان الاقتصادية، لأن الكثير من هذه المشكلات نبع من داخلها السودان، وبالتالي فإن حلولها هي من داخل السودان أيضاً، من ذلك مثلاً ملاحظة البنك الدولي بأن ثروة السودان النفطية لم يستفد منها كما يجب في التنمية وتنويع مصادر الدخل وتطوير الموارد البشرية ودعم القطاع الخاص، ومن ذلك أيضاً إشارة البنك الدولي إلى «التوزيع غير المتكافئ للموارد بين المركز والأطراف»، والتحديات التي تحكم بيئة الاستثمار كضعف التمويل وتردي البنية التحتية وغيرها.  

يعود السودان إلى عالم باتت فيه عناوين الإصلاح الاقتصادي والإداري والشفافية والمساءلة، في رأس أولويات كل الدول من دون استثناء، وقد اختبر المسؤولون السودانيون بأنفسهم أهمية هذه المنظومة الواسعة من المعايير والقوانين في الطريق الشائك الذي أدى أخيراً إلى إصلاح الأمور مع المجتمع الدولي ونجح السودان في عملية الانتقال والتكيف هذه، وهو بالتالي  يمتلك الآن الدروس المستفادة من تلك التجربة وسيجد نفسه بالتالي أكثر استعداداً لمتابعة النهج البناء نفسه وتوظيفه في بناء مجتمع قوي ومزدهر.

دعم الأشقاء والأصدقاء 

، والسودان لن يكون وحده في مسيرة الإصلاح الشامل فجميع الدول الصديقة العربية والإسلامية  والغربية، وكذلك مؤسسات التنمية الدولية والعربية والمتخصصة ستكون إلى جانبه، ويمكن للسودان تخفيف القسم الأكبر من عبء الديون، كما يمكنه توظيف كل هذه النوايا الإيجابية في خطط طموحة للتنمية واستقطاب الاستثمارات والشراكات الدولية، خصوصاً في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة والمعادن وغيرها، لكن من أجل ذلك فإن السودان سيكون مطالباً بالإسراع في ترسيخ  بناء دولة على أساس الحكم الرشيد والتنمية المتوازنة والشراكة الوطنية وإصلاح مؤسسات الحكم وقواعد التمثيل والتزام الحوار والعملية السلمية في معالجة المسائل الوطنية كافة، إنها فرصة للعمل لكنه تحدٍ كبير والمسؤولية التاريخية للقيادة السودانية.