غصن ضحية
صراع "نيسان ـ رينو" ؟

12.12.2018
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
رشيد حسن

لا تسأل لماذا انتهت أسطورة كارلوس غصن على يد شركائه اليابانيين؟ 

إسأل بدلاً من ذلك: كيف تمكن هذا الرجل اللبناني البرازيلي الفرنسي من الإستمرار والإزدهار لمدة 19 عاماً تقريباً وسط بيئة يابانية ذات ثقافة مختلفة تماماً عن ثقافة الشركات الغربية ومجتمع ياباني منغلق وغير معتاد على العمل تحت قادة تنفيذيين أجانب.

جاء كارلوس غصن إلى «نيسان» من شركة «رينو الفرنسية» التي كان قد لمع فيها كنائب للرئيس التنفيذي عندما تمكّن من تبديل مسارها الخاسر وتعثرها في مجالات التصاميم وخلق سيارات جذابة ليجعل منها شركة رابحة وليجعل من سياراتها مجدداً عنصر جذب للمشترين حول العالم. 

هذه السمعة التي بناها في فرنسا وأكسبته منصب الرئيس التنفيذي لشركة رينو قادته إلى شركة نيسان التي كانت على شفا الإنهيار، وقد سارع غصن إلى مد طوق النجاة إلى الشركة اليابانية المشهورة لكن بثمن، تمكن بشخصيته وبراعته التفاوضية من إتمام صفقة اشترت بموجبها «رينو» التي كانت قد تعافت مالياً حصة رئيسية في نيسان بقيمة خمسة مليارات دولار (تمّ لاحقاً رفع الحصة إلى 43.4 في المئة)، في المقابل ضمن كارلوس غصن أمراً آخر لم يعتد اليابانيون عليه في السابق وهو حق «رينو» أو قل حقه هو كرئيس تنفيذي أجنبي في تعيين أعضاء في مجلس إدارة نيسان وهذا إضافة إلى أخذ زمام القرارات كلها على المستوى التشغيلي.

نفّذ كارلوس غصن إبتداءً من العام 1999 تحولاً تاماً في مصير الشركة تضمن إغلاق مصانع خاسرة وصرف نحو 21 ألف عامل وقام بإستخدام الوفورات للتركيز على إنتاج 22 من الموديلات الناجحة لسيارات الصالون أو الرباعية الدفع أو البيك أب أو الشاحنات، وتمكن بفضل نجاح هذه الاستراتيجية من قلب صورة نيسان في العالم وجعلها تتقدم في وقت قصير على منافستها الكبرى شركة تويوتا، وفي أقل من ثلاث سنوات عادت «نيسان» إلى مرحلة الربح وتمكنت من إطفاء مليارات الدولارات من الدين التي كانت ترزح تحته.

وفي أيار 2016، أطلق غصن مبادرة من نيسان لشراء حصة تحكم (34 في المئة) في شركة ميتسوبيشي بقيمة 2.2 مليار دولار، وكانت «ميتسوبيشي» تواجه يومها ثالث فضيحة لها خلال عقد واحد وآخرها التلاعب بالبيانات المتعلقة بتوفير الوقود في محركات سياراتها، وقد أدى اعتراف الشركة بذلك إلى خسارتها نحو ثلاثة مليارات دولار من قيمة أسهمها في أسبوع واحد، وبموجب الاتفاق أعطيت نيسان الحق بتعيين ثلث أعضاء مجلس الإدارة في ميتسوبيشي.

برز كارلوس غصن بعد ذلك كمهندس للتحالف الثلاثي بين «رينو»  و«نيسان» و«ميتسوبيشي» الذي مكّن الشركات الثلاث من التعاون في مجالات عدة مثل صناعة القطع والمبيعات وخفض التكاليف وتنسيق سياسات التسويق. 

لكن بينما كان غصن يستمتع بالنجاحات المتوالية التي يحققها في السوق اليابانية، فإن هذه النجاحات بالتحديد كان لها فعل معاكس في صفوف الإدارة اليابانية لنيسان وربما أيضاً في الوسط السياسي الياباني. فبعد عملية تملّك حصة «ميتسوبيشي» وضمها إلى التحالف الثلاثي، عيّن غصن نفسه رئيساً لشركة ميتسوبيشي وبات بذلك في آن واحد رئيساً تنفيذياً للشركات الثلاث:«رينو» و«نيسان» و«ميتسوبيشي» وكذلك رئيساً للتحالف القائم بينها. 

يعتقد مراقبون للصناعة أن هذه التطورات باتت أكبر مما يمكن أن يتحمله اليابانيون خصوصاً في شركة نيسان التي بدأ مديروها يستفيقون على حقيقة أن «رينو» أعطيت امتيازات كثيرة بموجب صفقة التملك الإنقاذية التي تمت في العام 1999 وأن الجانب الفرنسي بما في ذلك الحكومة الفرنسية التي تملك 15 في المئة من «رينو» باتت هي من يقرر تعيين أعضاء مجلس إدارة نيسان كما إن غصن بات الآمر الناهي لنيسان ولميتسوبيشي في آن معاً، ثم جاءت الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يُقال وهو إطلاق غصن لمبادرة إستهدفت دمج الشركات الثلاث في شركة واحدة يكون هو رئيسها التنفيذي، ويعتقد أن غصن الذي اعتقل في طوكيو يوم الاثنين 19 نوفمبر كان يستعدّ للتوجه بطائرته الخاصة بعد يومين إلى أمستردام لحضور إجتماع مهمّ لممثلي الشركات الثلاث كان يتوقّع أن يبحث خطة الدمج التام بينها.

اليابانيون إنقلبوا على مشروع غصن لدمج شركات التحالف تحت وصاية فرنسية

طلاق ..غير حبّي

تعتقد مصادر مصرفية أميركية أن خطة غصن لدمج الشركات الثلاث كانت ستعزّز دور رينو والحكومة الفرنسية في تقرير مصير شركات تعتبر رمزاً للإفتخار الياباني، وهو أمر قوّى المشاعر السلبية الدفينة لدى اليابانيين وربما دفع الجانب الياباني في «نيسان» إلى اتخاذ قرار بوقف خطة الدمج عن طريق وضع حد لدور غصن كرئيس للشركتين اليابانيتين، لكن وبالنظر الى وزن الرجل وحضوره الكاريزمي العالمي في صناعة السيارات، فقد تردّد الجانب الياباني في إقالة الرجل الذي أنقذ الشركة ولا يزال يقود نجاحاتها، لأن ذلك كان سيبدو تعسفياً ومستهجناً من أكثر المساهمين وليس من «رينو» وحدها، لذلك ربما تمّ التفاهم مع السلطات القضائية اليابانية على أن الوسيلة الوحيدة الممكنة هي تدمير شخص غصن من خلال اتهامه بمخالفات مالية جسيمة واعتقاله لمدة طويلة يتم خلالها عزله عن قيادة الشركتين وتنفيذ التغييرات المطلوبة فيهما، وهو ما حصل بالفعل إذ أقيل غصن من رئاسة «نيسان» ثم من رئاسة «ميتسوبيشي»، وتبع ذلك مجموعة تصريحات لـ هيروتو سايكاوا الرئيس المعيّن لـ «نيسان» كشفت عن بعض خلفيات الإنقلاب. فقد شدّد سايكاوا على أن كارلوس غصن «أصبح قوياً أكثر من المطلوب» وبات متفرداً بقراراته متجاهلاً للجانب الياباني، مُضيفاً أن الكلام الشائع حول دور غصن الاستثنائي في إنقاذ «نيسان» غير صحيح لأن الفضل يعود للموظفين ولقيادات الشركة في ذلك، كما إن سايكاوا لم يخف عزم الجانب الياباني الحد من سلطة «رينو» في تعيين أعضاء مجلس إدارة في «نيسان» وأن يكون له دور أساسي في تعيين رئيس التحالف الثلاثي ورسم سياساته. 

أضفْ إلى ذلك أن مجموع الرواتب التي يتقاضاها غصن من الشركات الثلاث كرئيس لها كان من العوامل التي أوغرت صدور اليابانيين ضده (وضد القادة التنفيذيين الأجانب عموماً) لأن رواتب غصن تعتبر ضخمة جداً بالقياس إلى رواتب الرؤساء التنفيذيين في اليابان، وقد حاول بعض مؤيدي غصن تبرير رواتبه بإظهار أنها أقل بكثير من راتب رئيس «جنرال موتورز» مثلاً أو شركة «فيات» الإيطالية، لكن المقياس يجب في نظر اليابانيين أن يكون معدلات الرواتب والمكافآت في الشركات اليابانية وليس في مكان آخر. 

قوة غصن باتت نقطة ضعفه، اليابانيون تحملوا على مضض قيادة أجنبي لـ «نيسان» و«ميتسوبيشي»  

إنقلاب مدبّر؟

الضباب الكثيف الذي أحاطت به السلطات اليابانية ظروف الإعتقال المفاجئ لـ غصن واحتجازه الطويل في ظروف قاسية ومن دون السماح لمحاميه بحضور جلسات التحقيق، بدأ ينقشع عن ما أسمته أوساط عدة قانونية وصناعية ومالية في الولايات المتحدة بـ «إنقلاب شركات» على الطريقة اليابانية. لقد قرر اليابانيون إستخدام خيار غير مألوف في التعامل مع القادة الناجحين للشركات لأن صبرهم نفذ كما يبدو من رؤية أجنبي مثل كارلوس غصن يرتقي المنابر ويخطف الأضواء كمنقذ لصناعات السيارات اليابانية، بل كقائد محتمل لتحالف ثلاثي يضم إلى «رينو» اثنتين من كبرى شركات اليابان، ولا توجد في الحقيقة سابقة تسلّم فيها شخص بقوة وحضور غصن رئاسة شركة يابانية مهمة، واليابانيون نادراً ما يلجأون إلى توظيف قيادات تنفيذية أجنبية إلا في حالات الضرورة القصوى وغالباً لمدة محددة. 

هل ارتكب كارلوس غصن ومساعده المقرب الأميركي غريغ كلي ما يبرر الملاحقة القانونية؟ لا أحد يعلم حتى الآن، لأن التحقيق محاط بسرية حتى على محامي غصن، ولأن السلطات القضائية اليابانية اعتقلته مع مساعده من دون توجيه تهم جزائية لهما كما يفرض القانون في الغرب مثلاً، وحتى لو وجدت تهم فإن اعتقال غصن ووضعه في زنزانة منفردة لأكثر من ثلاثة أسابيع بدا سابقة لا يوجد ما يبررها في تاريخ الشركات اليابانية إلا كون الإعتقال غطاء مناسباً لتنفيذ ما بات العديد من المراقبين في الغرب يسمونه انقلاباً على الفرنسيين في التحالف الثلاثي الذي يضم «رينو» و«نيسان» و«ميتسوبيشي» لكن بقيادة فرنسية.

كارلوس غصن أنجز صفقة دسمة لـ  «رينو» العام 1999 لكن «نيسان» قرّرت أخيراً أن من حقها تصحيح المعادلة

ماذا بعد؟

بغضّ النظر عما سيؤول إليه مصير كارلوس غصن على يد النظام القضائي الياباني، فإن السيرة المهنية للرجل البالغ من العمر 64 عاماً إنتهت أو وضع حدّ لها على الأرجح في اليابان. أما قيادته لـ «رينو» فمرهونة بالفصل الثاني من الملاحقة القضائية اليابانية، وإذا كان اليابانيون سيذهبون إلى أبعد في محاولة النيل منه، علماً أن «رينو» والجانب الفرنسي أعلنا تمسكهما بـ غصن واكتفيا بتعيين رئيس تنفيذي بالوكالة للشركة الفرنسية في انتظار جلاء الوضع القانوني لـ غصن في اليابان.

السؤال الكبير أخيراً هو كيف سينعكس الإنقلاب على كارلوس غصن على التحالف بين الشركات الثلاث وعلى علاقات التعاون في قطاع السيارات بين فرنسا واليابان، وهنا فإن علامة إستفهام كبيرة برزت بسبب سعي اليابان إلى تبديل الموازين لصالحها على اعتبار أنها تمثل الطرف الأقوى لجهة حجم الإنتاج والانتشار في الأسواق، وقد ألمح الرئيس الياباني الجديد لشركة «نيسان» أن التحالف يجب أن يدار من «لجنة» تضم الشركات الثلاث وليس من قبل كارلوس غصن وحده، ورغم أن الشركات الثلاث أعلنت خلال اجتماع لها في أمستردام تمسكها بالتحالف، إلا أن مراقبين طرحوا السؤال حول ما إذا كان ذلك ممكناً في ظل التوتر الفرنسي الياباني الذي أثاره اعتقال غصن وهو مهندس التحالف والشخص الذي أشرف على ترتيب العلاقة اليومية بين الشركات المكونة له. وهل يوجد قيادي ياباني يمكن أن يحلّ محل غصن في هذا الدور الاستراتيجي؟ وهل يمكن لصيغة «اللجنة الثلاثية» التي اقترحها سايكاوا أن توفّر بديلاً للدور اليومي الإستثنائي الذي كان يلعبه غصن؟

غصن هو المهندس البارع لتحالف الشركات الثلاث، فهل يستمر من دونه أو يســــقط لغياب البديل؟

الأمر الأكيد هو أن الأمور في «نيسان» و«ميتسوبيشي» بعد كارلوس غصن لن تكون كما كانت من قبل، وقد يكون اليابانيون حققوا إنجازاً لجهة استرداد قيادة معلم أساسي للصناعة اليابانية، لكن عليهم أن يواجهوا الآن المسؤوليات الجسيمة لتركة كارلوس غصن في وقت تواجه صناعة السيارات احتداماً أكبر للمنافسة العالمية وتبديلات غير مسبوقة بسبب ثورة السيارات الكهربائية أو الذاتية القيادة ودخول عمالقة من خارج الصناعة مثل «غوغل» و«تسلا» و«أمازون» إلى حلبة المنافسة بأسلحة جديدة وثقافة ابتكار وهيكل تكلفة أكثر ملاءمة بكثير مما هو سائد في صناعة السيارات التقليدية.