صراع المضائق:
من يهدد شرايين التجارة العالمية؟

09.04.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

سوليكا علاء الدين

اجتاحت المضائق والممرات المائية الحيوية في التجارة العالمية خلال السنوات الأخيرة موجة من الاضطرابات المتلاحقة، مخلّفةً وراءها ندوبًا بالغة في سلاسل التوريد عبر مختلف القطاعات والاقتصادات. ومن أبرز الأحداث التي زعزعت استقرار هذه الممرات جائحة "كوفيد-19"، جنوح سفينة "إيفرجيفن" في قناة السويس، استمرار جفاف قناة بنما، حصار موانئ البحر الأسود في أوكرانيا، ومؤخراً هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر. تُشير بيانات المنظمة البحرية الدولية، إلى أنّ 90 في المئة من السلع المتداولة عالمياً يتمّ شحنها عبر البحار، بينما تُسيطر الممرات المائية على 61 في المئة من إنتاج العالم من البترول والسوائل النفطية الأخرى، أي ما يعادل 58.9 مليون برميل يومياً، وفقاً لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. لذا، يُعدّ ضمان إمكانية الوصول إلى هذه المضائق البحرية وحماية سلامتها أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لحركة النقل البحري، حيث أن أي عوائق تواجهها لا تُؤثر فقط على التجارة البحرية الدولية بشكل كبير، بل على الاقتصاد العالمي برمّته.

ممرات استراتيجية

تُمثّل المضائق والقنوات والممرات المائية الضيقة عصب الحياة للتجارة الدولية والأمن والنقل البحري في العالم. وتُسهل هذه الممرات حركة مرور السفن الكبيرة والتبادل التجاري، وذلك بفضل مواقعها الاستراتيجية وأهميتها الاقتصادية. كما تلعب دورًا حاسمًا في تقصير مسافات الرحلات بين مواقع الإنتاج والأسواق، مما يُحقق  نقلاً سريعاً وآمناً للسلع والبضائع. ويُؤدي إغلاق بعض المضائق بسبب الحروب أو الأعمال العدائية إلى عواقب وخيمة على التجارة العالمية، مما يُجبر العديد من السفن على السفر لمسافات أطول بكثير لتفادي مناطق الخطر، وأبرزها زيادة تكاليف الشحن وارتفاع أقساط التأمين على السفن والبضائع بسبب المخاطر المتزايدة المرتبطة بالطرق البديلة.

وفي السنوات الأخيرة، ازدادت حدّة الاضطرابات التي تؤثر على سلاسل التوريد في طرق الشحن البحري الرئيسية بشكل ملحوظ. فما هي أهم الممرات المائية للتجارة العالمية؟

هرمز.. بوابة النفط والغاز

يتمركز مضيق هرمز، الممر المائي المُهيمن على التجارة العالمية، عند مدخل الخليج العربي، حيث يقع بين سلطنة عُمان وإيران، مُشكلاً صلة الوصل بين الخليج العربي وبحر العرب بعرض يبلغ 60 كيلومتراً.

ويُمثّل المضيق شرياناً استراتيجياً واقتصادياً وتجارياً ذا أهمية بالغة لدول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة ودول الشرق الأوسط بصفة عامة. فمن الناحية الجغرافية، يُعدّ المضيق المنفذ البحري الوحيد لعدد من الدول مثل الكويت والبحرين وقطر والعراق. إذ تصدّر دول الخليج نحو 90 في المئة من نفطها عن طريق ناقلات نفط تمر عبره. وتُشكل سفن الشحن التي تحمل مستوردات دول الخليج العربي من الدول الآسيوية، خاصةً الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، جزءًا هامًا من حركة المرور البحري عبر مضيق هرمز. كما يُشكل نقطة ازدحام بالغة الأهمية فيما يتعلق بناقلات النفط، حيث يعبره يومياً ما بين 20 و 30 ناقلة، بحمولة تتراوح بين 16.5 و 17 مليون طن، بمعدل ناقلة نفط كل 6 دقائق في ساعات الذروة؛ أي بنسبة تتراوح ما بين 20 إلى 30 في المئة من تجارة النفط العالمية.

ولا يقتصر دور مضيق هرمز على كونه بوابة عبور للنفط الخام فقط، بل يُشكل ممراً هاماً  لنقل السلع الأساسية في العالم. هذا وتبلغ قيمة التجارة السنوية التي تمر عبر المضيق تريليون دولار، حيث تعبر ناقلات تزن أكثر من مليارين ونصف المليار طن سنوياً. وتُشكل شحنات السلع الأولية مثل الحبوب وخام الحديد والإسمنت 22 في المئة من هذه التجارة، بينما تمثل تجارة الحاويات التي تنقل السلع تامة الصنع إلى دول الخليج نحو 20 في المئة. ناهيك عن صادرات الغاز الطبيعي المسال، حيث يمر عبره سنوياً 80 مليون طن متري، أي ما يزيد عن 20 في المئة من إمدادات العالم. وبفضل هذه العوامل، بات مضيق هرمز الشريان الحيوي للاقتصاد العالمي.

يُجمع الخبراء على تنامي أهمية مضيق هرمز بشكل لافت منذ اكتشاف النفط في إيران والجزيرة العربية مطلع القرن الماضي .إذ تكمن  أهميته الاقتصادية في كونه ممراً ضرورياً لتجارة النفط والغاز العالمية. وقد تعززت هذه الأهمية بشكل أكبر مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، حيث اتجهت الدول الصناعية الكبرى إلى منطقة الخليج لتأمين احتياجاتها من نفط الخليج العربي.

ومع توقعات وكالة الطاقة الدولية بارتفاع حجم الطلب العالمي على النفط إلى 121 مليون برميل يومياً بحلول عام 2030، يزداد التأكيد على الأهمية الحاسمة لمضيق هرمز في أسواق الطاقة العالمية. إذ إن من شأن أي خلل في أمنه أو حرية الملاحة فيه أن يُشكل تهديداً خطيراً على استقرار الأسواق العالمية. وقد حذر بنك "جيه بي مورجان تشيس" من أن أي حصار محتمل للمضيق قد يُؤدي إلى تضخم أسعار النفط بشكل كبير، مع آثار واسعة النطاق على أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي. ويُسلط هذا الضوء على أهمية الرقابة والتخطيط الاستراتيجي للحماية من الاضطرابات المحتملة في مضيق هرمز، وذلك لضمان استقرار أسواق الطاقة العالمية وحماية الاقتصاد العالمي من أي خضات محتملة.

ملقا.. صمام أمان الطاقة

يأتي مضيق ملقا في المرتبة الثانية بعد مضيق هرمز من حيث الأهمية الاستراتيجية للاقتصاد العالمي. ويُشكل هذا المضيق ممرًا مائيًا طبيعيًا يربط بين بحر أندامان "المحيط الهندي" وبحر الصين الجنوبي "المحيط الهادئ" بطول يبلغ 800 كيلومتر، بينما لا يتجاوز عرضه 65 كيلومترًا في أضيق نقطة له في الجنوب.

يُعتبر المضيق من أهم الممرات المائية التجارية في العالم، حيث يُشكل قناة الشحن الرئيسة بين المحيطين، كما يربط الاقتصادات الآسيوية الرئيسة، مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة والصين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية ببعضها البعض وبالاقتصاد العالمي. ويُقدر أن 25 في المئة من التجارة الدولية تمر عبر مضيق ملقا سنويًا، أي ما يعادل 100 ألف سفينة تحمل نحو 30 في المئة من كافة السلع المتداولة عالميًا ويُستخدم أكثر من 40 ميناءً على طول المضيق لتسهيل حركة التجارة.

ويُمثل مضيق ملقا ثاني أكثر نقاط الاختناق البحرية ازدحامًا في العالم، ونقطة الاختناق البحرية الأساسية في آسيا. يُتيح المضيق للسفن أن تسلك أقصر طريق بحري بين القرن الإفريقي والخليج العربي إلى شرق آسيا والمحيط الهادئ، مما يجعله طريقًا رئيسيًا لنقل النفط الخام والمنتجات البترولية الأخرى. وتمر عبره نحو 16 مليون برميل نفط يوميًا، ويشكل النفط الخام ما بين 85 و90 في المئة من إجمالي تدفقات النفط التي تمر عبره سنويًا، بينما تشكل المنتجات البترولية الأخرى النسبة المتبقية.

ولا يقتصر دور المضيق على ربط شرق آسيا بالشرق الأوسط وأوروبا، بل يُعد أيضًا شرياناً هاماً لأمن الطاقة في الصين، حيث تمر 80 في المئة من وارداتها من الطاقة عبره. وتثير رغبة الصين في التحكم بمضيق ملقا مخاوف إقليمية ودولية، خاصةً مع ازدياد اعتمادها على نفط الخليج العربي ومواد إفريقيا الخام. حيث قامت الصين باستثمار مليارات الدولارات في مشاريع التعدين هناك.

ومن المتوقع أن يتجاوز مضيق ملقا، الذي يعاني من ازدحام واصطدامات، طاقته الاستيعابية بحلول نهاية العقد مع استمرار تنامي حركة الشحن. ويؤكد الخبراء على الدور البحري الحاسم للمضيق ، حيث تُعادل حركة المرور فيه ثلاثة أضعاف حركة المرور في قناتي بنما والسويس. وتشير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) إلى أن حظر المضيق يعني "أن ما يقرب من نصف أسطول الشحن العالمي سيكون مطلوبًا لإعادة توجيه مساره حول الأرخبيل الإندونيسي". وسيؤدي اختيار مضيق "لومبوك" كبديل إلى زيادة السفر بمقدار 4600 كيلومتر و170 ساعة، وزيادة تكاليف الشحن بنسبة 20 في المئة. وتحذر إدارة معلومات الطاقة من أن مثل هذا التحويل من شأنه أن "يقيد قدرة الشحن العالمية، ويزيد من تكاليف الشحن، وربما يؤثر على أسعار الطاقة"، مما سيؤثر بشكل كبير على الخدمات اللوجستية البحرية العالمية.

من جهة ثانية، يُصنّف مضيق ملقا من بين أكثر المناطق خطورة في العالم، بفعل النزاعات السياسية وانتشار القرصنة بشكل كبير والأحداث الطبيعية الكارثية. وبحسب مركز مكافحة القرصنة التابع للمكتب البحري الدولي، تُشكل القرصنة ومحاولات السرقة والاختطاف مخاطر كبيرة على السفن في المضيق، حيث تُتعرض لعدد متزايد من الهجمات.

باب المندب.. حلقة وصل

يُشكل مضيق باب المندب، الواقع في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، حلقة وصل تاريخية وجغرافية هامة تربط بين القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا. يفصل المضيق البحر الأحمر عن خليج عدن والمحيط الهندي ويحتل موقعاً استراتيجياً بين القرن الأفريقي والشرق الأوسط، وتحديداً بين جيبوتي وإريتريا في إفريقيا واليمن في آسيا. كما يربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب وبشكل بوابة عبور إلى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. ويعتبر المضيق ممرًا بحريًا حيويًا في مسار التجارة العالمية، حيث يشهد مرور نحو 40 في المئة من حركة التجارة البحرية العالمية.

ويُعدّ مضيق باب المندب أيضاً أحد أهمّ نقاط العبور البحرية لثلاث دول عربية في شمال إفريقيا هي الجزائر وتونس وليبيا، مما يسمح لها بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وتلبية احتياجاتها من المواد الغذائية الأساسية. وتستورد هذه الدول ما يصل إلى 70 في المئة  من القمح عبر مضيق باب المندب، مما يجعله عصباُ أساسياً للأمن الغذائي في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، يمرّ عبر المضيق 32 في المئة من تجارة كلوريد البوتاسيوم على مستوى العالم، وهو السماد الأكثر تداولًا، مما يُؤكد على أهمية المضيق في التجارة العالمية للمواد الكيميائية.

وبحسب وكالة إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يمر عبر "باب المندب" ما يقارب 6.2 ملايين برميل من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية المكررة يومياً، أي ما يعادل 9 في المئة من إجمالي مصادر الطاقة المنقولة بحراً حول العالم. وتُشكل هذه الشحنات مصدرًا رئيسيًا للطاقة لأوروبا والولايات المتحدة والأسواق الآسيوية مثل سنغافورة والصين والهند. ولا يقتصر دور المضيق على نقل الطاقة فقط، بل يمرّ عبره أيضًا أكثر من 50 مليون طن من المنتجات الزراعية سنويًا.

هذا ويُعتبر المضيق نقطة التقاء استراتيجية واقتصادية وعسكرية، مما يجعله ساحة صراع إقليمية ودولية، وورقة رابحة في الحروب والنزاعات. ويُعاني مضيق باب المندب من نقطة ضعف جوهرية نابعة من طبيعته الجغرافية، حيث يُسهل عرضه الضيق، الذي لا يتجاوز 20 كيلومترًا، استهداف السفن العابرة في ممر يربط البحر الأحمر ببحر العرب، ويؤدي إلى قناة السويس، التي يمرّ عبرها 12في المئة من حجم التجارة العالمية. ومؤخرًا، تعرضت حركة الملاحة عبر المضيق لاضطرابات متكررة بسبب هجمات الحوثيين على السفن التجارية، الأمر الذي أدى إلى مخاوف من تأثيراتها على التجارة العالمية.

 وفي ظلّ هذه الاضطرابات، يبحث الخبراء عن حلول بديلة لمضيق باب المندب. إذ يُشكل إغلاق مضيق باب المندب عائقًا هائلاً أمام تدفقات النفط الأوروبية وشمال أفريقيا، حيث يضطرّها إلى تغيير مسارها واتخاذ طرق أطول للوصول إلى الأسواق الآسيوية. ويُؤدّي ذلك إلى زيادة مدة الرحلات وارتفاع تكاليف الشحن والوقود التأمين. كما يُؤثّر إغلاق المضيق على الناقلات التي تغادر الخليج العربي، حيث يُصبح الوصول إلى قناة السويس أو خط أنابيب سوميد مستحيلًا، مما يُعيق التجارة العالمية بشكل كبير.

بنما.. أزمة مناخ وسفن

تقع قناة بنما الاستراتيجية في قلب أمريكا الوسطى، واصلةً بين المحيط الهادئ والبحر الكاريبي والمحيط الأطلسي. تمتد القناة بطول 50 ميلاً، بينما يضيق عرضها عند أضيق نقطة إلى 110 أقدام فقط. ومنذ افتتاحها عام 1914، لعبت القناة دورًا محوريًا في التجارة العالمية، حيث سهلت أكثر من 14000 عملية عبور سفن في عام 2023، وربطت ما يقرب من 2000 ميناء في 170 دولة حول العالم.

واجهت قناة بنما تحديات جمة خلال مسيرتها، لا سيما بسبب التقلبات المناخية القاسية. فقد أدت فترات الفيضانات والجفاف والضباب إلى إغلاقها مؤقتًا وفرض قيود وتأخيرات على حركة السفن. ولكن مؤخرًا، تعرّضت القناة إلى أزمة غير مسبوقة بسبب تأثيرات تغيرات المناخ. فقد أدى ارتفاع درجات حرارة مياه المحيطات إلى نقص المياه في القناة، بينما تفاقم الجفاف فيها بسبب ظاهرة النينو، مما أجبر ناقلات الوقود وشاحنات الحبوب على اعتماد مسار أطول لتجنب الازدحام. كما تسبّ[ت هذه الأزمة في خفض إدارة القناة لقدرتها التشغيلية و تقليل عدد السفن العابرة يوميًا، مما زاد من فترات انتظار السفن وارتفاع الرسوم التي تدفعها إلى أكثر من ثمانية أضعاف.

وتُظهر بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن شحن الحاويات يُشكل الحصة الأكبر من حركة المرور في قناة بنما من حيث عدد المعابر وصافي حمولة السفن. تلي ذلك ناقلات البضائع السائبة الجافة وناقلات الغاز والمواد الكيميائية، بينما يُعد قطاع حاملات السيارات عميلًا مهمًا أيضًا. تشهد القناة عبور أكثر من 13 ألف سفينة سنويًا، ما يُمثل نحو 5 في المئة من التجارة العالمية. وترتفع هذه النسبة إلى 7 في المئة في أشهر الصيف الذروة.

وقد شهدت قناة بنما تراجعاً ملحوظًا في حركة المرور خلال الفترة الأخيرة، حيث انخفض متوسط عدد عمليات العبور اليومية من 36 عبورًا إلى 22 عبورًا. وفي نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تم الإعلان عن خطة لتخفيض عدد مرات العبور على مراحل إلى 18 عبورًا يوميًا بحلول شباط/ فبراير 2024، أي حوالي نصف المتوسط الحالي. ودفع هذا الانخفاض بعض السفن إلى تغيير مسارها عبر قناة السويس لتجنب فترات الانتظار الطويلة في بنما. ووفقًا لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، انخفضت عمليات عبور السفن الشهرية في بنما بأكثر من 50 في المئة مقارنة بالذروات التي بلغتها خلال العامين الماضيين.

وتلعب قناة بنما دورًا هامًا في تجارة الحاويات العالمية، حيث تساهم بنحو 46 في المئة من تجارة الحاويات التي تنتقل من شرق آسيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. يمر من خلالها ما يقارب من 13 ألف سفينة سنويًا، أي بمعدل 37 سفينة يوميًا، تحمل حمولة تبلغ نحو 235 مليون طن متري سنويًا. وتُشكل هذه التجارة مصدر الدخل الرئيسي لبنما، حيث حققت 4.3 مليارات دولار عام 2022. وعلى الرغم من الاضطرابات التي تشهدها حركة الملاحة في البحر الأحمر، لم تستفد قناة بنما بشكل مباشر من هذه الاضطرابات، حيث لم يتم تسجيل أي زيادة في حركة الملاحة عبر القناة منذ بدء الهجمات، وفق هيئة القناة.

كما يُلقي الاضطراب في قناة بنما بظلاله على الاقتصادات الكبيرة والصغيرة التي تعتمد على هذا الممر المائي الحيوي. وتعد الولايات المتحدة أكبر مستخدم لقناة بنما، حيث تمثل 72 في المئة من حجم البضائع العابرة عبر القناة في عام 2021. ويشكل هذا الحجم نحو 12 في المئة  من إجمالي حجم التجارة في البلاد بالطن (21.3  من الصادرات، و5.7 في المئة من الواردات). نتيجة لذلك، ارتفع الطلب على خدمات النقل بالسكك الحديدية بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة. ولم يعد أمام شركات الشحن خيار المرور عبر قناة السويس كبديل لقناة بنما، مما زاد من عبء النقل على السكك الحديدية. ويُعد الجسر البري، الذي يربط موانئ لوس أنجلوس ولونج بيتش في الولايات المتحدة عن طريق السكك الحديدية مع المناطق النائية الأوسع في أمريكا الشمالية، المنافس الرئيسي الآخر لقناة بنما.

وتحتل الصين المرتبة الثانية كأكبر مستخدم لقناة بنما، حيث تمثل 22.5 في المئة  من حجم البضائع التي تمر عبر القناة. وبالنسبة للصين، تشكل هذه النسبة 3 في المئة من الصادرات و1.5 من الواردات، أي ما يعادل1.7 في المئة من إجمالي تجارتها الخارجية بالأطنان. وقد أدت الأحداث الأخيرة في قناة بنما إلى ارتفاع أسعار شحن البضائع بين الصين والولايات المتحدة بنسبة 36 في المئة، وذلك دون احتساب الخسائر الناتجة عن تأخير نقل البضائع.

وتُعد القناة ذات أهمية استراتيجية للتجارة الخارجية للدول الواقعة على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية. حيث يعتمد نحو 22 في المئة من إجمالي حجم التجارة الخارجية التشيلية على القناة، موزعة بين 19 في المئة من الواردات و24 في المئة من الصادرات. وبالنسبة لبيرو، تمر 22 في المئة من إجمالي حجم تجارتها الخارجية عبر قناة بنما، موزعة بين 14 في المئة من الصادرات و32 في المئة من الواردات. كما تعتمد الإكوادور بشكل كبير على قناة بنما لنقل بضائعها، حيث يمر عبر القناة 26 في المئة من حجم تجارتها الخارجية، موزعة بين 18 في المئة من صادراتها و39 في المئة من وارداتها.

وحذّر تقرير صادر عن معهد التصدير والتجارة الدولية من أن تعطل قناة بنما، إلى جانب التطورات الأمنية والعسكرية في مضيق باب المندب، سيؤدي إلى تأخيرات كبيرة في سلاسل التوريد العالمية. وفي السياق ذاته، ألقى تقرير لشركة "ماكينزي" الضوء على تداعيات أشد موجة جفاف منذ عقود على قناة بنما، مشيرًا إلى تحول محتمل في طرق التجارة البحرية. وبحسب التقديرات، قد ينخفض عدد عبور القناة بمقدار 4000 عبور سنويًا، نظرًا لوجود فتحات عبور محدودة. وبشكل أكثر دقة، يمكن تحويل مسار نحو 2000 رحلة عبور، بشكل رئيسي ناقلات البضائع السائبة والسفن المتدحرجة، حول رأس الرجاء الصالح.

هذا ومن المتوقع أن يرفع هذا التعديل إجمالي تكاليف النقل البحري للتجارة عبر قناة بنما بنسبة 5 في المئة، أي ما يعادل 1.1 مليار دولار سنويًا. علاوة على ذلك، قد تُطيل الطرق البديلة زمن السفر بنحو 20 في المئة، مما يضيف أربعة أيام إلى متوسط مدة الرحلات التي كانت تستغرق 22.6 يومًا عبر القناة. يُشير هذا التحول الاستراتيجي إلى الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للتخفيف من آثار التغيرات المناخية والبيئية على الخدمات اللوجستية العالمية وكفاءة التجارة.

الأمن مقابل التجارة

تُعتبر المضائق والممرات البحرية شرايين التجارة والاقتصاد العالمي، وقد سلطت الاضطرابات الأخيرة في المياه الدولية، الضوء على دورها المؤثّر في حركة التجارة البحرية العالمية. لذا، فإنّ أي تهديد لأمن المضائق والممرات البحرية يشكل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي لدول العالم كافة وذلك بسبب تأثيره الكبير على حركة التجارة العالمية وسلاسل الإمداد، خاصةً الدول الكبرى التي تتبنّى استراتيجيات هادفة للحفاظ على سلامة هذه الممرات الحيوية ولضمان التدفق السلس والآمن لحركة التجارة العالمية وسلاسل الإمداد، مما يُعزز الاستقرار الاقتصادي والسياسي على المستوى الدولي.

ويُشكل الحفاظ على استقرار ممرات الشحن المائية الرئيسية في العالم أحد أهم العقبات التي تواجهها سلاسل التوريد، إلى جانب التوترات الجيوسياسية المتزايدة، والقرصنة، والتحديات الناجمة عن تغير المناخ، والتهديد الدائم بالحصار. وتشير التقارير إلى أن ما يصل إلى نصف التجارة البحرية في العالم معرضة لخطر الانقطاع عبر نقاط الاختناق البحرية، أهمها: قناة السويس، وقناة بنما، ومضيق هرمز، ومضيق ملقا.

مع تصاعد التحديات التي تُواجهها الطرق البحرية الرئيسية في مختلف أنحاء العالم، يبرز ضمان أمن هذه الممرات كأمر بالغ الأهمية. ويُشكل التنسيق الدولي الفعّال، والخطط الاستراتيجية الشاملة، والإدارة الفعّالة للمخاطر، ركائز أساسية لضمان بقاء الممرات البحرية الرئيسية مفتوحة ولجعلها بيئة آمنة وفعالة للتجارة العالمية.