العملات الرقمية للبنوك المركزية
هل تُغير قواعد النظام النقدي؟

03.05.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

سوليكا علاء الدين

في ظل التطورات التكنولوجية المتلاحقة، يشهد العالم ثورة رقمية هائلة أدت إلى زيادة الاعتماد على الخدمات الرقمية والتجارة الإلكترونية والعمل عن بعد. ويؤثر هذا التحول الرقمي السريع على البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ،لا سيما في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، التي تولي اهتمامًا متزايدًا بالعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) كوسيلة دفع مبتكرة وآمنة في العصر الرقمي .ويُعد تحول المدفوعات إلى رقمية أحد أهم جوانب التحول الرقمي، وهو ما يطرح تساؤلاً هاماً حول مدى قدرة هذا التحول على تحقيق نجاح أكبر. وفي هذا المشهد المتغير، تسعى العديد من البنوك المركزية إلى الحفاظ على دورها الرئيسي في توفير عملة يمكن الاعتماد عليها من أجل تحقيق أهداف سياساتها، حيث يبقى اعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية خيارًا واعدًا للحفاظ على دور أموال البنوك المركزية في العصر الرقمي، غير أنّ تنفيذها يطرح مسائل سياسية وتشغيلية تطلب دراسة متأنية.

تُعدّ منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من بين المناطق الأكثر نشاطًا في استكشاف وتطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية.وقد أجرى صندوق النقد الدولي مسحًا شمل 31 اقتصادًا في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى (ME&CA) ووجد أن 19 دولة تدرس أو تستكشف العملات الرقمية للبنوك المركزية. تتنوع مراحل تطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية في المنطقة، حيث تركز معظم الدول على مرحلة البحث، بينما تتقدم دول أخرى مثل البحرين وجورجيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى مرحلة إثبات المفهوم في حين تعدّ كازاخستان الدولة الأكثر تقدمًا في رحلتها إلى العملات الرقمية للبنوك المركزية. وتُظهر الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات في المنطقة والبلدان المنخفضة الدخل اهتمامًا محدودًا بالعملات الرقمية للبنوك المركزية.

ما هي العملة الرقمية؟

إن عملة البنك المركزي الرقمية (CBDC) هي شكل رقمي من العملة تُصدره وتنظمه البنوك المركزية. وهي تهدف أن تكون بمثابة عملة قانونية، وتُستخدم كوسيلة للدفع ومخزن للقيمة، تمامًا مثل العملة الورقية. وتُقيّم عملة البنك المركزي الرقمية بنفس وحدة الحساب المُستخدمة للعملة المحلية.  وفي معظم بلدان العالم، يهدف إطلاق عملة البنك المركزي الرقمية إلى توسيع خيارات الدفع  المتاحة وتعزيز الشمول المالي. ومع ذلك، فإنها تختلف عن الأشكال الأخرى من الأموال التي يصدرها البنك المركزي عادة، وهي الأرصدة النقدية والاحتياطي. فخلافاً للنقد الذي يُتيح إتمام المعاملات بشكلٍ مجهول، فإنّ العملة الرقمية تُتيح للبنك المركزي تتبع مسار الأموال بشكلٍ دقيق وتوفر له فرصًا تكنولوجية متزايدة.

الشمول المالي

إذاً، أظهر استطلاع صندوق النقد أنّ 19 بنكًا مركزيًا في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تُفكر في إصدار عملات رقمية للبنك المركزي. وقد استفادت سبعة بنوك منها بالفعل من برامج تنمية القدرات التي يقدمها صندوق النقد الدولي في هذا المجال.ووفقًا للاستطلاع، تركز دول المنطقة بشكل أساسي على كيفية قيام البنوك المركزية في تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة نظام الدفع.وبشكل أكثر تفصيلاً، في الدول المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تتمتع الأسواق المالية بمستوى تطور أعلى نسبيًا، تكون الأولوية لجعل المدفوعات المحلية وعبر الحدود أكثر كفاءة. بينما في الدول المستوردة للنفط في المنطقة، تُعطى الأولوية لزيادة كفاءة المدفوعات المحلية والعابرة للحدود. أما في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، والدول ذات الدخل المنخفض، فإنّ التركيز ينصب على توسيع نطاق الشمول المالي.

وتحت عنوان "العملات الرقمية للبنوك المركزية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى "، قدّم صندوق النقد الدولي إطارًا شاملًا وإجابات أولية للتساؤلات الجوهرية التي يجب على صانعي السياسات في المنطقة عند تقييم إمكانية اعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية وذلك الإرتكاز عليها في سياق إقليمي من خلال تسليط الضوء على السمات الرئيسية لأنظمة الدفع والأنظمة المالية والنقدية في المنطقة. وتلخّصت أبرز هذه التساؤلات في شرح الأهداف التي يسعى صناع السياسات إلى تحقيقها من خلال العملات الرقمية للبنوك المركزية، مناقشة أوجه القصور في أنظمة الدفع الحالية وكيفية معالجتها. كذلك، تضمّنت تقييم آثار إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية على الاستقرار المالي، وتمرير السياسة النقدية، والمخاطر التشغيلية للبنك المركزي. بالإضافة إلى تقديم توصيات لتصميم العملات الرقمية للبنوك المركزية بشكل يساعد على تحقيق أهداف السياسة وتخفيف هذه المخاطر.

الصندوق سلّط الضوء على نتائج جديدة ذات صلة بدول المنطقة، حيث أشار إلى أنّ العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) تقوم بتقديم إمكانيات هائلة لتعزيز الشمول المالي في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطىمن خلال معالجة أوجه القصور المتأصلة في أنظمة الدفع الحالية. ويعتبر الوصول إلى الحسابات المصرفية في المنطقة منخفضاً، كما تعاني قطاعات من السكان من نقص الخدمات من خلال وسائل الدفع الرقمية الحالية، ويتزايد الاعتماد على النقد، بما في ذلك لإرسال واستقبال التحويلات المالية، لا سيما في بلدان المنطقة منخفضة الدخل. وفي حال تقديم العملات الرقمية للبنوك المركزية، بتكلفة أقل من البدائل الحالية، فسوف يمكّنها ذلك من تحفيز المنافسة في سوق المدفوعات والمساعدة على زيادة الوصول إلى الحسابات المصرفية، وتحسين الإدماج المالي، وتحديث منصات التكنولوجيا القديمة. ومع ذلك، قد يكون الإقبال على العملات الرقمية للبنوك المركزية محدودًا ولا يوفر سوى فوائد هامشية في حال عدم معالجة بعض العوائق المتأصلة التي تحول دون زيادة الإقبال على الحسابات الرقمية وأنظمة الدفع.

فرص وتحديات

هذا وتساعد العملات الرقمية للبنوك المركزيةفي تحسين كفاءة خدمات الدفع عبر الحدود بشكل كبير من خلال تصميمها لمعالجة التحديات الناجمة عن نقص قابلية التشغيل البيني لأنظمة الدفع، المعالجة المعقدة لفحوصات الامتثال، وسلاسل المعاملات الطويلة، وضعف المنافسة. وقد بادرت بعض بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى إلى إطلاق منصات تكنولوجية جديدة عبر الحدود لمعالجة هذه المشكلات وتعزيز مدفوعات العملات الرقمية بين البلدان. كذلك، من المتوقع أن يكون للعملات الرقمية للبنوك المركزية  تأثير ملموس على الاستقرار المالي في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، خاصة بالنسبة للبنوك التي تعتمد بشكل كبير على الودائع. وقد تتنافس العملات الرقمية للبنوك المركزية مع الودائع المصرفية، وهي مصدر تمويل أساسي لبنوك المنطقة، مما يقلل ربحية البنوك وحجم الإقراض. وبالرغم من ذلك، تتمتع الأنظمة المصرفية في المنطقة عمومًا برأس مال كافٍ وربحية وسيولة كافية، تجعلها قادرة على امتصاص أي تأثيرات سلبية محتملة من منافسة العملات الرقمية للبنوك المركزية. كما يمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية أن تقلل من حصة النقد، لا سيما في اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي تعتمد على النقد وذلك من خلال تطبيق نموذج هيكلي صغير على ثلاثة اقتصادات في المنطقة تمثل مجموعات البلدان الواسعة في هذه المنطقة.

ووفقاً للصندوق، إنّ التأثير على الودائع وربحية البنوك التجارية قد يكون محدودًا، مع الأخذ في الاعتبار التركيز العالي للأنظمة المصرفية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى حيث تبقى مراقبة توزيع البنوك بالكامل أمراً ضرورياً. هذا ويُعدّ اعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية  خطوة هامة تتطلب تقييمًا دقيقًا لظروف كل بلد. وعلى الرغم من عدم وجود شروط مسبقة محددة تضمن نجاح اعتمادها، إلا أن وجود نظام مصرفي صحي، وأساس قانوني سليم، وقدرة إشرافية وتنظيمية قوية تشكّل عوامل أساسية لمعالجة أي آثار سلبية محتملة. كما يمكن أن تساهم العملات الرقمية للبنوك المركزية في تعزيز السياسة النقدية إلى أسعار الفائدة على الودائع من خلال زيادة المنافسة وخفض القوة السوقية للنظام المصرفي، بالإضافة إلى تعزيز قناة الإقراض البنكي للسياسة النقدية. في المقابل، قد يصعب قياس هذا التأثير بدقة ، حيث سيكون خاصًا بكل بلد، نظرًا لمحدودية استيعاب العملات الرقمية للبنوك المركزية.

من ناحية أخرى، يُشكّل اختيار ميزات التصميم المُلائمة تحديًا هامًا لتنفيذ العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لذلك، يقع على عاتق صناع السياسات مسؤولية كبيرة تتمثل في تصميم العملات الرقمية للبنوك المركزيةبدقة لضمان تحقيق الأهداف المُتَوَخّاة من إطلاق هذه العملات، ومعالجة الثغرات في أنظمة الدفع الحالية، والتخفيف من المخاطر السلبية المُحتملة مع الحفاظ على مبدأ "عدم الإضرار"  باستقرار النظامين المالي والنقدي. فعلى سبيل المثال، يُعدّ توفير إمكانية استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق الشمول المالي في المناطق ذات الاتصال المنخفض بالبيانات، كما هو الحال في البلدان منخفضة الدخل والاقتصادات الهشة المُتأثّرة بالصراعات. وبالمثل، فإن توفر العملات الرقمية للبنوك المركزية للتحويلات عبر الحدود يمكن أن يقلل التكاليف ويزيد من سرعة التحويلات.

مسار داعم

يُمثل إصدار واعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزيةمسارًا طويلًا يتطلب من صناع السياسات في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطىالتعامل معه بحذر ودقة، إذ ويحتاج هؤلاء إلى إجراء تقييم شامل لمعرفة ما إذا كانت العملات الرقمية للبنوك المركزية تخدم أهداف بلادهم وما إذا كانت الفوائد المتوقعة تفوق التكاليف المحتملة، بالإضافة إلى فهم التحديات التي يتعرض لها النظام المالي، والمخاطر التشغيلية للبنك المركزي. كما يجب أن يدرك صناع السياسات أن النقاش حول آثار العملات الرقمية للبنوك المركزية على النظام المالي والسياسة النقدية والاقتصاد بشكل عام لا يزال مستمرًا ويتطلب المزيد من البحث والتحليل مع إمكانية وجود حلول بديلة لتحقيق أهداف السياسة المقصودة، مثل تبني أو تحسين أنظمة الدفع الرقمية الأخرى.

هذا وأكّد صندوق النقد الدولي على استعداده لدعم وتوجيه صناع السياسات في تقييم الحاجة إلى إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية وإنشاء سياسات وأطر تنظيمية قوية للاستفادة من استخدام هذه التقنية وتقليل الآثار السلبية المحتملة على الاستقرار النقدي والمالي.