في مكتبه حيث يترك لمساته وذوقه، ومن وراء طاولته الرخامية من صنعه والتي يحبها ولن يغادرها إلا عندما ينتهي العمر لأن الإنسان الناجح لا يتقاعد برأيه. إستقبلنا رئيس "نجم غروب" نزيه نقولا نجم فخوراً بحكايته التي كتب فصولها بحبر إنجازاته ونجاحاته، فكان الحارس الأمين لمهنة عائلية بدأها والده قبل نحو قرن وأكمل هو فيها مع طموحاته وأحلامه الكبيرة ومع شغف وحبٍ للصناعة التي عايشها وخبرها وللحجر الذي أضاف إليه رونقاً وألواناً وجمالاً و...حياة.
إبن المسيرة المتميّزة الذي صار صاحب أحد أكبر مصانع الرخام والحجر في الشرق الأوسط، برز توقيعه الإستثنائي على سلسلة من أهم المشاريع في لبنان والخارج وآخرها البصمة اللبنانية التي تجسّدت فرنسياً في المشروع-التحفة Etoile De Pompadour الذي رعى وحضر تدشينه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والذي يستحق أن يُسمّى "مشروع العمر"، لكن نزيه نجم ليس متأكداً من ذلك، إذ يأمل هذا الصناعي الموهوب بأن يكون لمثل هذا الإنجاز أخوة في المستقبل .. لمَ لا طالما توفرت الإرادة والأمل والعمر الذي لم يتجاوز بعد الـ 62 عاماً.
من جيل إلى جيل تمتد قصة عائلة نجم التي لمعت في سماء صناعة الرخام في لبنان والمنطقة، بعد أن أطلقت العنان لمخيّلتها ولذوقها الذي تنطق به أحجار ومنتجات "مجموعة نجم".
هذا الذوق اللبناني صار عالمياً في "بومبادور" الفرنسية حيث حازت المجموعة على حقل Domaine de la Noaille لتجديد هذا الموقع الجميل وإعادة إحيائه في مجمّع راقٍ تأخذ الفروسية حيّزاً مهماً منه... وهكذا كان. فعائلة نجم التي تهوى ركوب الخيل تعرّفت صدفة إلى الميدان الواقع قرب مزرعة للخيل كان آل نجم ينوون شراءها قبل أن يبهرهم "ميدان بومبادور". ويقول نزيه نجم: "منذ ذلك الحين وضعنا عيننا على الميدان فقدّمنا كغيرنا دراسة للمشروع من منظار لبناني أي من زاوبة واسعة حيث عرضنا نظرتنا للميدان وتصورنا الذي أضفينا عليه سحراً مميزاً، الأمر الذي أقنع المفاوضين وأعجبهم، حتى إن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وبعد أن التقيت به لعرض الدراسة أمامه علّق أمام مساعديه بالقول: هذا الرجل يعرف ماذا يريد"، وهكذا وبعد مفاوضات دامت من آب 2015 حتى نهاية العام، فازت "نجم غروب" بالميدان الساحر.
حضور هولاند ..شهادة
عندما استقبل الرئيس الفرنسي نزيه نجم في 16 كانون الثاني 2016 وعده الأخير بتحويل الميدان مركزاً للفروسية والرياضة والصحة، وبتسليم المرحلة الاولى من المشروع في 12 آب 2016، وعد نجم ووفى.
وفي ذلك التاريخ، تمّ الإفتتاح الرسمي لميدان Etoile De Pompadour برعاية الرئيس الفرنسي وحضوره برفقة نخبة من المسؤولين الفرنسيين واللبنانيين والأصدقاء. وهولاند الذي يقع المشروع ضمن منطقته "كوريز" Correze، كان حريصاً على ضمان نجاحه عبر تجديده وإعادة إحيائه، بدليل أنه تابع المفاوضات في شأنه منذ البداية ورعاها خطوة بخطوة، وكان بين المفاوضين محافظ منطقة "كوريز" وعمدة "آرناك- بومبادور".
مشروع من ماض ساحر
هناك، على امتداد 630 ألف متر مربع في الريف الفرنسي الجميل الهادئ، وفي المساحات التي كانت تضم مباني قديمة كانت تُستخدم كإسطبل، بدأت تظهر أناقة المشروع العصري والطموح الذي يرسم مشهدية إستثنائية في فرنسا ويسترسل مستغرقاً في أحضان ماض ساحر.
مسلّحةً بإرادة النجاح والعمل الجاد الدؤوب، باشرت مجموعة نجم بالورشة، وخلال أقل من خمسة أشهر كانت المرحلة الاولى منجزة وكان الرئيس يفتتح الميدان مذهولاً بسرعة التنفيذ التي يعود الفضل فيها إلى القيّمين على المجموعة بدءاً من الصناعي نزيه نجم الى نجله المهندس المعماري فادي وابنته مهندسة الديكور هالة وابن شقيقه الفارس جوي نجم وكل فرق العمل والشركات التي ساهمت وشاركت في الأعمال. أما الميدان الذي سيكون بمثابة قرية صغيرة أطلق عليها الفرنسيون إسم "القرية المناخية"، فيتضمن فندقاً من 236 غرفة ومطاعم بمستوى راق ومطابخ ضخمة بمساحة 2000 متر وملاعب لكل أنواع الرياضة ومنشآت لركوب الخيل ومدرسة للفروسية، حيث تمّ أيضاً التحضير لكل التدريبات والبطولات التي ستجري في الميدان. وإذا كانت هذه الأعمال شكلت المرحلة الأولى المنجزة من المشروع، فإن المرحلة الثانية والتي يتوقع انتهاؤها في أيار 2017 فتتضمن تجديداً للمباني الأخرى وإنشاء مركز رياضي ومنتجع صحي (Spa) ومسرح ونادٍ ليلي وصالة للرقص وقاعات للإجتماعات والمؤتمرات، على أن يتم تشغيل المركز الصحي والرياضي والمسبح في نيسان 2017 تحت إدارة شركة Sothys، كما سيتم إنشاء مركز للحمية والأكل الصحي بإدارة السيدة سوسن الوزان.
أما المرحلة الثالثة فتشمل مشاريع أخرى تمّ التخطيط لها مثل بناء الفيللات (Villas) والبنغالوز (Bungalows) وذلك بعد أن تمّ تغيير تصنيف تلك المنطقة. وكشف نجم أنهم يفكرون بإنشاء عيادات طبية للتجميل، ويطالبون أيضاً برخصة لإنشاء كازينو ضمن المشروع.
المغامرة الرابحة
يتوقف نزيه نجم لحظات قليلة ليعترف أن ما قاموا به كان "ضرب جنون". نعم إنها المغامرة وإلا كيف يمكن لمصنع لبناني أن يجرؤ في ظل هذه الظروف على الدخول بمشروع بهذا الحجم وخارج لبنان. لكن في كتاب نجم، لا شيء يقف في وجه الشغف ويقول: "إن حماسته أكبر من مدى هذا الميدان الذي يشكّل لمنطقة كوريز مشروعاً حيوياً للإستثمار والتطوير الإقتصادي والإجتماعي". هذا ما أكّده رئيس مجموعة نجم للرئيس الفرنسي الذي كان حاضراً في حفل التدشين، إذ ثمّن في كلمته ثقة
فرانسوا هولاند بالمجموعة متوجهاً إليه بالقول: "بدعمكم المتواصل لنا، سيمكنكم الإعتماد علينا لإنجاح هذا المشروع الضخم". وشكر نجم الرئيس الذي سيستقبل ضيوف الشرف الأجانب والفرنسيين في "ايتوال دو بومبادور"، علماً أن الميدان سيكون بمثابة المقرّ الصيفي الرسمي لرئاسة الجمهورية الفرنسية.
بدوره، أشاد الرئيس الفرنسي بالعائلة اللبنانية التي غيّرت وجهة بومبادور التي ستصبح مكاناً إستثنائياً، هي التي كانت صُنفت معلماً تاريخياً. وتوجه الى المسؤولين في مجموعة نجم قائلاً: "لقد وضعتم بصمة خاصة في المشروع عندما احترمتم الإرث والتقليد أي العناصر التي تشكّل مصدر غنى لنا هنا كالحجر وأضفتم إليه الرخام، الأمر الذي يعكس تميزكم المهني ونجاحكم الإستثنائي في لبنان والعالم". والرئيس الفرنسي الذي حيّا عائلة نجم ومن خلالها كل لبنان أكّد أن علاقة التضامن التي تربط لبنان وفرنسا ستستمر الى الأبد من دون أن ينسى التذكير بأن وحدة لبنان وسلامة أراضيه هي من الثوابت الفرنسية. وختم بالقول إن مشروع تجديد ميدان بومبادور "لن يكون كغيره حيث هناك إندماج بين الإستثمار الخاص والدعم الرسمي العام، واندماج بين لبنان وفرنسا".
الصناعي المتعصّب لبنانياً
"أنا في الصناعة متعصب لبنانياً"، يقولها نزيه نجم ويرفع رأسه ليؤكد "إننا لم لن نفتتح مصانع إلا في لبنان ولبنان فقط". وعليه ان كل البضاعة التي تستخدم في المشاريع بالخارج ومنها "ايتوال دو بومبادور" يتم شحنها من بيروت.
في أي حال ليس مستغرباً على إبن عائلة نجم هذا التفكير، فهو سليل أسرة دخلت معترك الصناعة الرخامية منذ نحو مئة عام . فالوالد نقولا نجم بدأ باكراً في صناعة الرخام منذ العام 1918، أما نجله نزيه الذي شكّل الجيل الثاني فانخرط في هذا المجال في العام 1973 وساهم في تطوير هذا التراث الذي صار شركة تملك مجموعة مصانع تمكّنت من تنفيذ مشاريع مميزة بلمساتها الفنية اللافتة ، قبل أن يستقل نزيه نجم في العام 2000 عن شقيقه وغيره من المساهمين بعد أن اشترى كل الحصص وصار المالك الوحيد للمجموعة، لكنه لم يتوقف يوماً عن اعتبار هذا الإرث الصناعي أمانة بين يديه.
هو الذي عشق هذه الصناعة كان يستيقظ ليلاً ويحمد الله أنه اختار هذا المجال الذي أعطاه من كل قلبه وعقله وصار مولعاً بالألوان وتركيبها على الحجر، ومتّكئاً على خبرة متراكمة ورغبة متواصلة في الفرادة والتميّز وطموح لا يتعب. إفتتح إضافة الى المصنعين في منطقة المصيطبة، مصنعاً ثالثاً في منطقة بياقوت لإنتاج الرخام والغرانيت والاونيكس، شكل نموذجاً أحدث نقلة نوعية جعلت منه الأكبر في الشرق الأوسط وواحداً من أبرز المصانع العالمية لإنتاج الرخام كونه يضم أكثر المعدات والآلات تطوراً وتُستخدم فيه أحدث الأجهزة التكنولوجية، فضلاً عن الحرفيين البارعين الذين يبدعون فناً وزخرفة ويضم أكثر من 200 عامل. ويشير نجم إلى انهم اليوم في صدد "إنشاء صالة عرض جديدة في المصنع تمتد على مساحة 800 متر، ولها علاقة بكل ما هو فني، وحتى في مصانعنا في بيروت، نحرص على تقديم الجديد محاولين أن نستبق السوق".
بندقية إنتظار السوق
يعترف نجم بأنهم كصناعيين يحملون بندقية العمل لا القتال وينتظرون إقتناص فرصة إنتهاء الحرب في سورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ليبيا. ولكن إذا كانت العين على سورية، فالسؤال كيف ستنتهي الحرب وعلى أي أساس يقول؟.
وعن الأسواق التي يصدّر إليها صناعته يقول إن لبنان دائماً هو الوجهة والهدف إذ حمل العديد من المشاريع المهمة توقيع "نجم غروب" مثل السراي الحكومي وغيره، وأن الخليج هو السوق الأساسية الخارجية، لكن الكل يعلم التراجع الذي يصيب الأسواق عامة اليوم . ويوضح أن آخر مشروع في الخليج كان فندق الهيلتون في الرياض الذي يضم ألف غرفة وألف حمام، كاشفاً أنهم سعّروا عدداً من المشاريع الأخرى في السعودية ويأملون الفوز بإثنين أو ثلاثة منها على الأقل. "فالمملكة هي الخزان لنا جميعاً" يقول مشيراً إلى إنهم يصدّرون إلى أوروبا أيضاً لكن السوق تراجعت كثيراً هذه الأيام، كما إنهم يصدّرون بعض المنتجات إلى لندن ويحاولون فتح سوق في أميركا.
وما يزيد الطين بلّة، هو الواقع الصناعي الصعب في لبنان حيث تعاني الصناعة من مشاكل مزمنة أبرزها المنافسة الناجمة عن عدم تطبيق نظام الحماية الجمركية وغياب دعم الدولة لها، بمعنى أن الدولة لا تحمي ولا تدعم. وإذ يعترف بأن المنافسة الآتية من مصر وتركيا وحتى سورية (التي ينشط منها التهريب) والصين مخيفة، يأسف نجم أن يستمر الصناعي اللبناني رازحاً تحت عبء الضرائب والرسوم والمصاريف وفاتورة الكهرباء وأكلاف الإقامات وإجازات العمل للعمال الأجانب في ظل شح اليد العاملة اللبنانية. ويقول: "الله يعين الصناعة في لبنان والصناعيين، ففي فرنسا أو غيرها نجد الصناعي أو أي مستثمر محاطاً من كل الدولة بينما هو متروك في لبنان، ولذلك أعتبر أن المؤسسات الصناعية الكبرى التي لا تزال صامدة وتناضل للبقاء هي بمثابة أيقونات صناعية لهذا البلد".
التميّز ليس صدفة
ولكن ما هو سرّ "نجم غروب" التي تحافظ على استمراريتها رغم كل الظروف الصعبة وعلى تميّزها ؟ يجيب نجم بأن لا شيء يأتي بالصدفة. إذ لا يستحيل علينا أن ننجح في عمل لا نحبه، "وأنا حتى اليوم ما أزال أضع أمامي، كالأطفال، أقلام التلوين لأنجز تصميماً معيناً يكون نتاج شغفي وحبي وانتمائي لهذه الصناعة التي تعتمد على الذوق والفن، وكل التصاميم عندنا في المصنع هي من توقيع العائلة أي أنا وابني وابنتي".
وفي العودة إلى شعوره كصناعي لبناني فاز في أحد أضخم المشاريع في فرنسا وحاز على تقدير كبار المسؤولين، يؤكد نجم أن العطف الذي أحيط به في باريس لم يحصل عليه في لبنان، "لكنني فخور بأنني لبناني وبما أنجزت وخصوصاً في مشروع "ايتوال دو بومبادور" الأخير، كما إنني مسرور بردود الفعل والتعليقات والإتصالات التي أتلقاها من الجميع بالإضافة الى العروضات من مستثمرين يرغبون الدخول والإستثمار في المشروع".
أما عندما سألناه إذا كان يعتبر "ايتوال دو بومبادور" مشروع عمره، تردّد في الإجابة وقال: "لا أدري، وربما تكون هناك مشاريع أخرى مشابهة له، وأنا ما زلت في سن الـ 62 ". وروى لنا عن أحد أصدقائه الذي يبلغ عمره 84 عاماً حين سأله نجم متي ينوي أن يتوقف عن العمل فأجابه: بعد ثلاثة أسابيع على موتي. وينطلق نجم من هذه الواقعة ليؤكد: "إن الإنسان الناجح عندما يتوقف عن العمل ينتهي. من هنا أتمنى شخصياً أن لا أنتهِ إلا على طاولتي".