الأزمة المحتدمة في الخليج تفتح المنطقة والعالم على إحتمالات كثيرة. من جهة، هناك قوة عظمى أو الأعظم تريد فرض واقع جديد على المنطقة يلائم مصالحها ومصالح حلفائها الحيوية وهناك من جهة ثانية، دولة إقليمية قوية اتسعت حدودها السياسية ومواقعها العسكرية الأمامية خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 إلى حدّ جعلها قوية وضعيفة في الآن نفسه، إذ تجد نفسها أمام احتمال خسارة تلك المكاسب مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على النظام السياسي بل وعلى البلد نفسه. 

وقد وضعت واشنطن طهران أمام خيارات صعبة: إما العودة إلى حدود سياسية مقبولة ويمكن للعالم الإعتراف بها، وإما المواجهة والمغامرة بكل شيء. ولا شك ان أزمة التمدد الإيراني والإصرار الأميركي على الحد من هذا التمدد ووقف برنامجها النووي تمثل مواجهة عالمية ومخاطر عالية على السلام الإقليمي والدولي.

كيف نفهم الوضع المستجد؟ وما هي حسابات الأطراف المختلفة؟ وهل نتجه إلى مواجهة إقليمية خطرة أم أن الباب الخلفي للمفاوضات يبقى مفتوحاً؟ وما هو تأثير هذه الأزمة والمسار المحتمل لتطورها على المصالح العربية؟ 

المأزق الإيراني

بين كل الدول الحديثة يمثل النظام الإيراني حالة فريدة من حكم طبقة رجال الدين الذين يسيطرون على كل مفاصل الدولة ويعطون الأولوية لمشروع الغلبة السياسية والتمدد الجغرافي الذي يتم لأجل تحقيقه، تسخير كل الطاقات والموارد الاقتصادية والبشرية المتوافرة، وعلى أساس هذا المفهوم الثيولوجي للدولة الجديدة (خصوصاً مبدأ ولاية الفقيه) بنيت المؤسسات الحكومية والقوى العسكرية والتنظيمات الاجتماعية والهيكل الدستوري والقانوني بل والنظام الاقتصادي، كما أعيد رسم خريطة التواصل الإقليمي والسياسة الخارجية مع اهتمام أقل بعلاقات الجوار والتعاون بين دولة ودولة مع التركيز على الأقليات الشيعية التي اعتبرتها طهران مرتكزات بشرية طبيعية يمكن تفعيلها في إطار استراتيجية التمدد وبناء منظومة إقليمية عابرة  للحدود.

وسنرى أن أحد «المعيقات الوجودية» التي تمنع طهران من مجرد التفكير بتنفيذ شروط واشنطن بالإنكفاء إلى حدودها هو أن شرعية النظام الإيراني ليست مستندة فقط إلى شرعية شعبية داخل إيران، بل يعزز هذه الشرعية الدور الذي أعطاه النظام لنفسه في النطاق الإقليمي وهذا الدور هو الآن مرتكز أساسي لسلطة أجهزة عسكرية وأمنية كما إنه عامل أساسي في الصراع بين أجنحة السلطة مثل الصراع بين ما يسمى بالمعتدلين والمحافظين.

بسبب عدم إيلاء الأولوية للإقتصاد ومستوى معيشة السكان وغلبة المشروع السياسي، إنشغلت إيران منذ أربعين عاماً في سلسلة لم تنته من النزاعات والحروب الإقليمية المكلفة جداً، لكن إيران التي أنفقت المليارات على الجهود العسكرية والسياسية وجدت ضالتها أخيراً في محاولة اكتساب صفة الدولة النووية وعوّلت على نقلة بهذا الحجم لتثبيت مكانتها كقوة إقليمية، لهذا فإن منح إيران في العام 2015 اتفاقاً نووياً يسمح لها (ضمناً) بإمتلاك القدرة النووية بعد فترة معينة ويرفع عنها حصاراً قاسياً ويفتح اقتصادها  للاستثمارات الغربية، كان بمثابة الذروة في استراتيجية بناء القوة التي اتبعتها، وقد اعتبرت إيران الاتفاق النووي بمثابة إشارة إلى أن الطريق فتح للإندفاع في سياسة التمدد الإقليمي، وبدا لها فعلاً أن كل العقبات رفعت من طريقها قبل أن تستفيق من الحلم الجميل على الخبر الصاعق الذي أعلن انتصار دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الأول 2016. 

الزلزال الأميركي

إيران أدركت منذ ليلة إعلان النتائج أن كل ما حققته بالتفاوض البارع والصبر والمراوغة سيكون مهدداً في وقت قريب، ومع أنها ربما اعتبرت صعود ترامب صدفة سياسية يمكن تجاوزها بالصبر، لكنها سرعان ما أدركت أن مشكلتها الحقيقية ليست مع دونالد ترامب نفسه بل مع ما يبدو أنه الانقلاب السياسي الشامل الذي أطلقه والذي يبتعد بالولايات المتحدة كثيراً عن سياسات المهادنة التي اتبعها الرؤساء السابقون له لصالح استراتيجية مواجهات متعددة تستهدف إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية في العالم في مختلف المجالات التجارية والتكنولوجية والدفاعية والسياسية، فإيران لا تتعامل الآن مع رئيس خصم ومعادٍ لها بل تتعامل مع وضع أميركي جديد قد يبدل السياسات الأميركية لسنوات طويلة مقبلة. 

ربما على أمل أن يكون ترامب «حادثة تاريخية» تحملت إيران على مضض إعادة فرض الحصار ثم خروج واشنطن من الاتفاقية النووية مؤملة النفس ربما بفشل ترامب في الحصول على ولاية ثانية، وبالتالي فوز رئيس ديمقراطي يكون أكثر تساهلاً، لكن التطورات السياسية تظهر كل يوم أن هذا الاحتمال بعيد، مما  يعني أن ترامب قد يعود بولاية ثانية ويكون أكثر تصميماً على متابعة سياساته الحالية وأن المستقبل قد يكون أكثر صعوبة، كما إن إنجازات الرئيس ترامب الاقتصادية والخارجية قد تمهّد الطريق أمام رئيس جمهوري يخلفه ويكون من صنفه مثل مايك بنس، وبالطبع فإن فوز الجمهوريين سيمكّنهم من تعزيز مواقعهم السياسية ويفقد إيران أي أمل بالخروج من النفق المظلم الذي تعيشه حالياً بالسبل السياسية أو التفاوضية.

سياسة الصبر

وعندما أعلن ترامب على لسان وزير خارجيته بومبيو أنه سيعمل على فرض «أشد عقوبات في التاريخ» أبقت طهران على الأمل بأن تفشل واشنطن في فرض الالتزام بتلك العقوبات الوحيدة الجانب على شركائها في الاتحاد الأوروبي أو على الدول الكبرى الأخرى المستوردة لنفطها مثل الصين والهند واليابان وكوريا وتركيا، كما إنها علّقت الآمال على تمسك الاتحاد الأوروبي وبقية الموقّعين على الاتفاقية النووية بالاتفاق ثم اتفاقهم على تصميم آليات تستهدف تمكين الشركات الأوروبية من التعامل مع إيران من دون التعرض للعقوبات الأميركية، لكن طهران فوجئت بأن أوروبا أعجز من أن تؤثر في الحصار الخانق خصوصاً وأن الولايات المتحدة أرفقت عقوباتها بقدر كبير من التهديد والوعيد لحلفائها ولبقية دول العالم وأن هذه التهديدات أفلحت في فرض الإنضباط على الجميع وهو ما أغلق على إيران أية إمكانية لاجتناب الكارثة الاقتصادية التي تلوح في الأفق.  

خطر وجودي

إن نجاح الولايات المتحدة في إحكام الخناق  على الاقتصاد الإيراني وعزل طهران إلى حد كبير عن سوق النفط وبصورة تامة عن المعاملات بالدولار أو بالذهب وحتى بالبتروكيماويات يدخل هذا البلد الذي يزيد عدد سكانه على 81 مليون نسمة في أزمة طاحنة، إذ يحرم الدولة من أهم مصادر الدخل الذي تنفق منه على الاقتصاد والحاجات الاجتماعية والخدمات ناهيك بالمصاريف اللازمة للدفاع والأمن والميليشيات التابعة، وبالنظر الى الاستنزاف المستمر للاقتصاد الإيراني منذ إعادة فرض العقوبات وتراجع احتياطات البلد المالية، لم تعد إيران أمام ضائقة مالية واقتصادية بل خطر مباشر على النظام وتهديد للأمن الاجتماعي وعمل الدولة نفسها.

الإعتداء على ناقلات نفط راسية أو في عرض البحر ومحمّلة بالمنتجات النفطية وكذلك تكثيف الإعتداء بالصواريخ على السعودية ومطاراتها وعلى أنابيب النفط، كل ذلك يمثل الأسلوب الذي قررت إيران اعتماده للردّ  على محاولة الخنق وإجبار المجتمع الدولي على التوسط لوضح حدّ له أو للتخفيف منه، وإيران المهددة في وجودها لا تملك الوقت ولا المقومات المالية التي تمكّنها من الصمود لوقت أطول أو احتمال حصار مديد قد يقوِّض اقتصادها،  لذلك قررت المجازفة بالتصعيد على جبهات ثلاث أساسية:

1 - البدء بإعتراض الملاحة في مضيق هرمز الذي يمر منه ثلث كميات النفط المستخدم في العالم. وسرت تكهنات بأن إيران كانت تستعد لضرب بعض المواقع الأميركية قبل أن تسارع واشنطن إلى تكثيف انتشارها العسكري والبحري في المنطقة وتوجيه الرئيس ترامب لتحذيرات شديدة اللهجة لطهران. 

2 - تحريك نشاطات تخصيب اليورانيوم والتلويح بالخروج من الالتزامات التي وقّعت عليها طهران في الاتفاق النووي، وقد ألمح المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي بأنه ليس من الصعب على إيران التسريع في التخصيب اللازم لإنتاج سلاح نووي. ويستهدف تكتيك تحريك نشاطات التخصيب زيادة الضغط على الرئيس ترامب من حلفائه الذين سيحمّلونه مسؤولية انهيار الاتفاق النووي لكن من دون القدرة على إحداث أي تغيير في الأمر الواقع. 

3 - التحرش العسكري المباشر بأميركا والذي تمثل بإسقاط الطائرة من دون طيار، وهو تحرش محسوب بدقة، أي أنه لا يستدعي رداً أميركياً كما حصل فعلاً أو يستدعي رداً محدوداً قد يفيد إيران.

خيار إيران ذو حدّين

من الواضح أن كافة الخيارات التي تعتبرها طهران متاحة لها في نطاق الرد على المواقف الأميركية خيارات ذات حدين، فهي قد تفلح في تسخين الملف كله إستدراجاً لعروض الوساطة الدولية، لكنها في الوقت نفسه قد لا تفلح في إقناع واشنطن بالتفاوض أو تخفيف الحصار المضروب وهذا السيناريو هو الأسوأ لإيران لأنها تكون قد استخدمت أوراقاً عالية التكلفة لكن من دون الحصول على نتيجة، بينما ستلجأ الولايات المتحدة في المقابل إلى البدء في تكوين «قضية» أو ملف أممي ضد إيران تجمع حوله لفيفاً كبيراً من الحكومات الغربية ودول الخليج، وهذا التحالف غالباً ما يكون الغطاء المطلوب من واشنطن لتنفيذ تحركات أو ضربات عسكرية ذات طابع استراتيجي. 

الحسابات الأميركية 

حتى الآن، سددت واشنطن كافة الضربات تقريباً في المرمى الإيراني، وهي تمكنت من دون إطلاق رصاصة واحدة من إحداث ضرر في الاقتصاد الإيراني يفوق ما يمكن أن تحدثه الحروب العسكرية، وبينما يئن اقتصاد إيران متأثراً بعملية التجويع الأميركية، فإن إدارة الرئيس ترامب تتفرج على خصمها العنيد وقد تقلصت خياراته واشتدت أزمته وتفرق مناصروه، والرئيس ترامب بارع في ليّ الأذرع وجلب الألم المفضي إلى المفاوضات. 

واشنطن تستخدم الأزمة لتأكيد دورها في حماية منابع النفط وتعزيز ميزاتها الاستراتيجية في موازين المنافسة الدولية

من المؤكد أن الهدف الأول لواشنطن قد يكون إجبار طهران على التفاوض والقبول بـتجرّع «الكأس المر» الذي شرب منه الإمام الخميني عند توقيع اتفاق الهدنة مع عراق صدام حسين، والكأس المر الذي تريد واشنطن من طهران تجرّعه مرّ فعلاً لأنه لا يطلب منها فقط الدخول في اتفاقية نووية جديدة توقف فيها أي طموح أو تفكير بالحصول على سلاح نووي، بل يطلب منها أيضاً أن تتخلى عن كافة المواقع والمكاسب الإقليمية التي أنفقت العقود الطويلة والجهود والأرواح والمليارات الطائلة في سبيل تحقيقها، وهذا صعب جداً لأن إنكفاء إيران إلى داخل حدودها وخروجها من المنطقة سيعتبر أسوأ من هزيمة عسكرية لأنه يلغي الكثير من مبررات وجود النظام الإيراني وسيشعل لا محالة حرباً حقيقية بين الأجنحة المختلفة في السلطة وقد يكون هذا التنازل هو الإشارة التي تنتظرها المعارضة لمحاولة الانتفاض على النظام السياسي.

سياسة حافة الهاوية

إن الولايات المتحدة تمتلك المبادرة في هذا النزاع الاستراتيجي وهي على الأرجح تريد إضعاف النظام الإيراني بصورة لا شفاء منها بعد أن أعادت تشكيل تحالفاتها وتنصلت من سياسة أوباما وما اعتبرته «الاتفاق الكارثي» الذي منحه لإيران من دون فرض أي ثمن سياسي عليها مثل وقف برنامج الصواريخ ووقف إثارة القلاقل في بلدان عدة في المنطقة. ولأن الهدف الأميركي استراتيجي فإن الوسائل التي لجأت إليها واشنطن تتضمن عنصر مخاطرة محسوبة لأن الحصار الإيراني بات من القوة بحيث لم يترك لإيران أي خيار سوى تطبيق سياسة «حافة الهاوية» من خلال السعي الى إيقاع أذى كبير بتجارة النفط الدولية وربما توجيه المزيد من الضربات إلى السعودية أو تحريك الميليشيات التابعة في العراق ولبنان. أما التهديد بمعاودة برنامج التخصيب فقد يكون له مفعول على المدى الطويل لكنه لن يزن شيئاً الآن في وقت تواجه إيران خطر انهيار الاقتصاد والقلاقل الاجتماعية. 

ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة وضعت في حسابها الردود التي قد تلجأ إليها طهران تحت ضغط الألم والحصار الخانق، لهذا تمّ استقدام الأساطيل وتوجيه التحذيرات الشديدة للقيادة الإيرانية والتي بدت جلية في اللغة الحربية التي استخدمها الرئيس ترامب جواباً على تهديدات إيرانية وكذلك اللغة التي استخدمها مساعدوه الأقربون مثل جون بولتون ومايك بومبيو، لكن واشنطن ستراقب في المدى القريب السلوك الإيراني مستغلة كل عمل عسكري  أو اعتداء على ناقلة لتعزيز موقفها أمام حلفائها وبناء تفاهم دولي يزيد في عزلة إيران ويزيد وضعها صعوبة خصوصاً إذا قررت الولايات المتحدة توجيه ضربات رادعة مدروسة ومحدودة للبنية العسكرية الإيرانية أو لمرافق حيوية مثل موانئ تحميل النفط أو غيرها..

ماذا تريد واشنطن؟

إن الولايات المتحدة ترى أن الوضع الإيراني يقترب من الجدار كما إن النزاع الذي فجّره الانسحاب من الاتفاق النووي وتشديد الحصار يحمل مخاطر، لكنه يحمل أيضاً فرصة الولايات المتحدة لتأكيد دورها المباشر في حماية منابع  وممرات النفط وربما إعادة صياغة الوضع الإقليمي ليس فقط بهدف تأكيد المصالح الأميركية الاستراتيجية في النفط وفي الأسواق الإقليمية، بل بما يعطي واشنطن ميزات استراتيجية هائلة في النطاق الدولي وفي خططها لتأكيد صفة الدولة العظمى الوحيدة وإعادة ترتيب الموازين العالمية لحسابها وللمدى الطويل.