بين 2017 و2020 اختلفت كثيراً ظروف المشهد السياسي والأمني لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى سوريا.. ففي زيارته الاولى حطّ القيصر"بطلاً" في قاعدة حميميم في اللاذقية مع نهاية العام 2017 مستعرضاً بعيد إعلانه عن الهزيمة الكاملة لتنظيم داعش على ضفتي نهر الفرات في سوريا ، قائلاً:"النصر تحقق وهزيمة الإرهابيين اكتملت". أما اليوم وفي زيارته الثانية المفاجئة التي حملت الكثير من المفارقات، فبدا وكأنه يقطف ثمار انتصاراته قائلاً "الأمر لي".
صحيح أن بوتين أراد أن يعيّد جنوده في سوريا في العام الجديد تبعاً للتقويم الشرقي، إلا أن أهمية الزيارة تكمن في أنها أعقبت "زلزال" اغتيال قائد فيلق القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني في ضربة أميركية في العراق.
مفارقات بوتينية
وبصرف النظر عن بعض التحليلات التي قرأت ضعفاً في الإدانة الروسية لعملية اغتيال سليماني والتي اقتصرت على وصف العملية بـ"المغامرة" وبتقديم التعازي للشعب الايراني، وعن ربط هذا الأمر بالكلام عن صراع نفوذ بين موسكو وطهران في سوريا، فإن أكثر من مفارقة طبعت زيارة الزعيم الروسي لدمشق وأبرزها:
أولاً: إن عملية"الإنزال" التي نفذها الرئيس بوتين في مقر قيادة القوات المسلحة الروسية تمت من دون إخطار نظيره السوري بشار الأسد إلا عند وصوله إلى المطار.
ثانياً: إن بوتين الذي لم يحل ضيفاً على الأسد في القصر الجمهوري خلافا للاعراف الدبلوماسية، هو الذي استضاف الرئيس السوري الذي لاقاه إلى مقر القوات الروسية . وقد لا يجدي التذرّع بالظروف الأمنية لعدم مراعاة الإصول الدبلوماسية باعتبار أن "قيصر" روسيا كان يجول بارتياح لافت في أحياء مزدحمة في دمشق حيث شاهد بالعين المجرّدة ما أسماه "بوادر عودة الحياة السلمية"، بعد أن أشاد في محادثاته مع الأسد بـ "التقدم الهائل" في سوريا نحو إعادة ترسيخ الدولة ووحدة أراضيها".
ثالثاً: في الوقت الذي كانت تجري فيه مراسم تشييع قاسم سليماني في مسقط رأسه كرمان، ورغم كل الوجوم وحال التوتر والقلق الذي كان يلف المنطقة على وقع قرع طبول الحرب الأميركية الإيرانية، لم يجد "زعيم" روسيا حرجاً في القيام بجولة سياحية على بعض المواقع الدينية والأثرية في دمشق. فزار الجامع الأموي مستطلعاً معالمه الحضاريّة، وضريح القديس يوحنا المعمدان حيث سجل كلمة في سجل الزوَار، كما زار الكنيسة المريميّة التي أضاء فيها الشموع وأهدى القيّمين عليها أيقونة للسيدة العذراء. من دون أن نغفل هنا رغبة بوتين في الظهور كزعيم تربطه علاقة وثيقة بالكنيسة الأورثوذكسية الشرقية.
رابعاً: وفي سياق حرصه على تعزيز دوره أكثر فأكثر في المنطقة، ومن باب إظهار أنه اللاعب الإقليمي الذي يحق له القول :"أنا الزعيم"، طار بوتين من دمشق إلى تركيا حيث دشّن مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان مشروع خط السيل التركي (توركستريم) الذي ينقل الغاز الروسي إلى تركيا وجنوب أوروبا عبر البحر الأسود، وذلك ترجمة ً لشراكة استراتيجية روسية تركية بدأت تؤتي ثمارها. صحيح أن الملفات التي بحثها بوتين مع أردوغان متشعبة بدءاً من سوريا وتحديداً محافظة إدلب، ووسط كلام عن وساطة روسية لإتمام مصالحة بين أنقرة والنظام السوري، مروراً بايران وتداعيات الأزمة بين طهران وواشنطن، وصولاً إلى ليبيا التي أرسلت إليها تركيا في الأيام طلائع جنودها لمساعدة حكومة الوفاق في مواجهة قوات المشير خليفة حفتر، إلا أن ملف الغاز يبقى الأكثر "دسماً"، إنطلاقاً من سعي موسكو الدؤوب لفرض هيمنتها على أسواق الغاز الأوروبية، الأمر الذي يقلق الولايات المتحدة الأميركية.
بعد كل ما تقدّم، يتفاقم الشعور بالحسرة على دولنا في هذه المنطقة والتي باتت إما صناديق بريد أو ساحات لتبادل الرسائل وإما نقاط تجاذب سياسي وديبلوماسي وعسكري على المصالح بين الأميركي والروسي. ولذلك نقول: "وإلى أن نرتقي إلى مصاف الدول، تصبحون على أوطان".