كتب ياسر هلال
... يا لمحاسن الصدف، الرئيس التركي "يزف" إلى شعبه، بعد عملية تحضير "هوليوودية"، بشرى اكتشاف حقل ضخم للغاز في البحر الأسود، تقدر احتياطاته بنحو 26 تريليون قدم مكعب، أي بحجم حقل ظهر المصري العملاق تقريباً. وفي المقلب الآخر من شرق المتوسط "يزف" بشكل مفاجئ وبنفحة "هوليوودية" أيضاً كل من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ورئيس البرلمان "بشرى" وقف شامل لإطلاق النار في الأراضي الليبية كافة ويدعوان إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في مارس المقبل.
بمعزل عن محاسن الصدف، فإن رسالة وقف النار واضحة ومفادها.. لتبرد قليلاً الرؤوس الحامية، وليأخذ القادة العسكريون والمفاوضون وبخاصة الأتراك واليونانيون، إجازة قصيرة، فالأولوية الآن لملفات أكثر إلحاحاً على الجبهة الممتدة من إيران إلى لبنان مروراً بالعراق وسورية، أما توقيت وشكل إعلان الرئيس أردوغان عن اكتشاف حقل الغاز فهو بمثابة قنبلة دخانية لتغطية تراجعه في شرق المتوسط وليبيا، وإبلاغ الشعب التركي أنه حقق وعده بإيجاد مصادر محلية للنفط والغاز بل تحويل تركيا إلى دولة مصدرة، وذلك بعد ان أدرك أو "أبلغ" بترتيب الأولويات، وبعد أن أدرك أو "أبلغ" أن مواصلة المعركة ستؤثر سلباً على هدفه الرئيسي المتمثل بإعادة النظر باتفاقية لوزان وتوسيع المياه البحرية التركية وحل المشكلة القبرصية، ولذلك بدا الرئيس التركي مستعداً للقبول بأي وساطة المانية أو سويسرية أو غيرها لإطفاء محركات البوارج الحربية وسفن المسح والتنقيب فوق مياه المتوسط،، وللتجاوب السريع مع "التمني" الأميركي لإطفاء محركات الدبابات المستعدّة لحسم المعركة عسكرياً في ليبيا والدخول بدلاً من ذلك في تسوية سياسية ولو مؤقتة.
أردوغان يتراجع بعد إدراكه أو "إبلاغه" ان الأولوية حالياً لملف إيران وليس شرق المتوسط
خطوة إلى الوراء ، ثلاثة إلى الأمام
وقبل ان يتبادر الى الذهن أن وقف النار هو هزيمة لتركيا، نشير إلى أن تراجع أردوغان، هو مجرد خطوة إلى الوراء بعد ان خطا خلال الأشهر الماضية ثلاث خطوات إلى الأمام وليس اثنتان فقط، وعدم التراجع كان يعني وضع تركيا بمواجهة مع كل دول العالم من دون أي حليف فعلي باستثناء دولة قطر، بل هناك من يعتبر ان القراءة التركية الصحيحة للتغيرات والتوجهات والاستجابة السريعة للضغوط ستحسن وضعها الجيوسياسي وربما الاقتصادي أيضاً وتسهم في إعادة بناء تحالفاتها وتقوي موقفها التفاوضي عندما يحين وقت البحث الجدي في حلّ مشكلة شرق المتوسط وإعادة رسم الخرائط، على أمل أن تقوم إيران بقراءة صحيحة للتغيرات، فتبادر إلى التراجع خطوتين إلى الوراء.
وتكتسب الخطوة التركية أهميتها بالنظر إلى حقيقتين:
الأولى: إعادة بناء التحالفات
إن تغيير خرائط الدول خصوصاً في منطقة شرق المتوسط المسكونة بأحقاد وثارات تاريخية ودينية وعرقية، أضيف إليها الصراع على موارد ضخمة من النفط والغاز، لا يتم استناداً إلى معايير العدالة والحق أو إلى قانون الأمم المتحدة للبحار الذي يحتاج إلى "منجم مغربي لفك طلاسمه"، بل يتم استناداً إلى معايير القوة العسكرية والاقتصادية وإلى التحالفات الإقليمية والدولية، ويبدو واضحاً أن تركيا غير قادرة عسكرياً على تغير المعادلات والخرائط، كما إنها تعاني مشكلة فعلية في شبكة تحالفاتها، يمكن اختصارها بحالة عداء وصراع مع كل دول الجوار ومع غالبية دول "ما وراء البحار"، والتي حلّت محل شعار "صفر مشاكل مع دول الجوار"، ولذلك، فإن التراجع كان خطوة ضرورية وذكية، بل لن يكون مستغرباً أن تشهد المرحلة المقبلة مبادرات لتحسين شبكة تحالفاتها قد تشمل خطوات إيجابية تجاه بعض الدول الأوروبية بهدف تحييدها وحصر حالة العداء في دول محددة كفرنسا مثلاً، وكذلك تجاه أميركا بما يرسّخ تحالفها معها ويقوي موقعها التفاوضي مع روسيا، بل قد نشهد مبادرات جدية تجاه مصر والدول العربية، خصوصاً اذا استكمل أردوغان حفلة الغزل تجاه مصر.
تركيا ستتجه لإعادة بناء تحالفاتها استعداداً "لأم المعارك" وهي توسعة حدودها البحرية
الثانية: استراحة لهضم المكاسب
تحتاج تركيا إلى هذه الهدنة إذا صح التعبير لهضم المكاسب الضخمة التي حققتها خلال الفترة الماضية والتي تمثلت بشكل أساسي في ما يلي:
• إحتلال موقع مؤثر بل ربما الأكثر تأثيراً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، في ليبيا ما يجعلها لاعباً إقليمياً رئيسياً، وتأتي هذه الهدنة لتظهر الرئيس التركي بأنه يعرف كيف يتقيد بقواعد اللعبة بعكس إيران مثلاً التي "لا بتاخذ ولا بتعطي"، وهو الأمر الذي قد يسهم في تثبيت موقع تركيا في ليبيا.
• توقيع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق في خطوة اعتبرها الرئيس التركي "أنها تغير قواعد الصراع في منطقة شرق المتوسط"، ولن يكون سهلاً تجاوز هذه المذكرة واعتبارها "كأنها لم تكن" كما أعلنت اليونان والدول الأوروبية، فهي ستبقى بنداً رئيسياً على طاولة المفاوضات مستقبلاً. وأهمية المذكرة أنها تستند إلى التصور التركي للسيادة على بعض الجزر وبالتحديد جزيرة كاستيلوريزو (مايس) وتتضمن تغييراً في الحدود البحرية اليونانية والقبرصية لصالح تركيا وليبيا ومصر، فتضيف نحو 100 ألف كلم2 إلى تركيا ونحو 39 ألف كلم2 الى ليبيا ونحو 15 كلم2 إلى مصر، والأهم أنها تجعل تركيا الممر الإلزامي لأي خط أنابيب من شرق المتوسط إلى أوروبا.
أتاتورك ألغى اتفاقية "سيفر" بالحرب، فهل ينجح أردوغان بتعديل اتفاقية لوزان بالمفاوضات
• نجحت تركيا نسبياً من خلال دبلوماسية البوارج والتهديد بالعمل العسكري في تعطيل أو تأخير الخطط القبرصية للإستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز وكذلك خطط الاستخراج في الحقول المكتشفة، كما نجحت في القيام بأعمال المسح والتنقيب والحفر في المياه القبرصية واليونانية من وجهة نظر قانونية والمتنازع عليها من وجهة نظرها.
• قيام تركيا بنشر خرائط لحدودها البحرية، وإيداعها لدى الأمم المتحدة، لتشكل وثائق "ربط نزاع" قانوني. ومن الوثائق الأكثر أهمية ،ما يعرف بالوطن الأزرق، وتوضح الصورة المرفقة رؤية تركيا الفعلية لحدودها البحرية في البحر الابيض المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود، وتجدر الإشارة هنا إلى أن إلقاء نظرة سريعة على خريطة الحدود البحرية لكل من اليونان وتركيا وقبرص كافية لتبيان عدالة مطالبة تركيا بتعديل اتفاقية لوزان. فالمياه البحرية التركية هي عبارة عن شريط ضيق بمحاذاة البر لا يصلح إلا لصيد السمك بالصنارة، إذ تقدّر مساحتها في بحر إيجه مثلاً بنحو 7.5 في المئة من مساحته الإجمالية مقابل 43.5 في المئة لليونان والباقي مياه دولية، ويرجع ذلك، إلى أن الاتفاقية وضعت جزر بحر إيجه كافة تقريباً تحت السيادة اليونانية، حتى تلك المحاذية للبر التركي مثل جزيرة كاستيلوريزو (مايس) التي تبعد 2 كلم عن تركيا ونحو 580 كلم عن اليونان، والتي يرجّح ان تكون الشرارة التي تشعل فتيل أي حرب محتملة.
وبإنتظار الجولات المقبلة من "حروب شرق المتوسط" يبقى السؤال الكبير، هل تنجح "تركيا المسلمة" بقيادة أردوغان بتعديل اتفاقية لوزان "الظالمة المجحفة" كما يصفها، واستعادة "حقوقها" في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه من دون حرب، بعد ان نجحت "تركيا العلمانية" بقيادة أتاتورك في العام 1923 بإلغاء اتفاقية "سيفر" واستعادة أراض شاسعة في الشرق والجنوب والغرب بعد حرب الاستقلال التي استمرت ثلاث سنوات.
خريطة الوطن الأزرق