د. وليد صافي *
ينعقد في مطلع تشرين الثاني في غلاسكو ، اسكتلندا ، برعاية الامم المتحدة المؤتمر السادس والعشرين الذي تشارك في اعماله الدول الموقعة على اتفاقية الاطار بشأن تغير المناخ. ويأتي إنعقاد هذا المؤتمر بعد سنتين من انعقاد المؤتمر الخامس والعشرين في العاصمة الأسبانية مدريد ، والذي لم تتمكن الدول المشاركة فيه من اتخاذ قرارات واعدة ومن تجاوز حدة الخلافات القائمة حول تطوير التزاماتها المعلنة في العام 2015 في اتفاقية باريس وذلك للتخفيف من الانبعاثات الكربونية والسيطرة على ارتفاع درجة حرارة الارض لتقليصها إلى حدود °1.5 درجة مئوية، كما لم يجرِ التأكيد في مؤتمر مدريد على الالتزامات بتغطية الاضرار التي تعاني منها الدول النامية والدول الجزرية الصغيرة، وكذلك الكلفة الناجمة عن التحول الى الطاقة النظيفة.
ينعقد المؤتمر ايضاً في مرحلة تحولات جيوسياسية كبيرة، وتوترات قائمة بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا والصين ، حيث تبرز الصراعات على قيادة العالم وسياسات السيطرة على الفضاء الالكتروني ، وتعزيز النفوذ على مصادر الطاقة، لاسيما الغاز وخطوط النقل التي تمتد الى الاسواق المختلفة في اوروبا وآسيا . وقد دفع الانسحاب الاميركي من افغانستان والتوجهات الجديدة لادارة بايدن في التخفيف من الوجود الاميركي في الشرق الاوسط ، إلى تركيز الجهود الاميركية في جنوب شرق آسيا في إطار استراتيجية تعزيز التحالفات في هذه المنطقة ، المرشحة لتوترات كبيرة وإعادة تشكيل ميزان قوى جديد في العقدين المقبلين . كما ادى هذا الانسحاب ، إلى خلق مشهد جيوسياسي جديد ، الامر الذي رفع من حدة التوترات بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا في غير منطقة ، وكذلك مع الصين حيث يتصدر مشروع الطريق والحزام ، قائمة المشاريع الصينية التي تشكل تحديات كبيرة للولايات المتحدة الاميركية.
ويمكن القول أن الموقف الاخير للرئيس الروسي بوتين حول التمسك بالسياسة الحالية لمنظمة اوبك + وابقاء زيادة الانتاج عند حدود 400 مليون برميل يومياً حتى نهاية عام 2022 والتعاون مع الدول الاعضاء ، يعكس في خلفياته تفاهمات بين الدول المنتجة التي لا يبدي بعضها حماسة كبيرة للاستثمار في الطاقة النظيفة ، والتي من المتوقع اذا ما حققت هذه الاخيرة حصة وازنة في سوق الطاقة العالمي في نهاية العقد الحالي ، سيؤدي ذلك إلى ولادة مشهد جيوسياسي جديد يتناقض مع ميزان القوى الحالي الذي تلعب فيه الدول الاعضاء في منظمة اوبك + دوراً حاسماً في اسواق الطاقة .هذا المشهد الجيوسياسي المتوقع ، دفع بالمملكة العربية السعودية التي يمثل النفط والغاز فيها حوالي نصف الناتج المحلي، إلى التمسك من جهة بالمطالبة بتعويض الدول المنتجة عن الانخفاض في مبيعات النفط الناتج عن إزالة الكربون ، وذلك في إطار مفهوم "الانتقال العادل" إلى الطاقة النظيفة ، وإلى الاستعداد الحاسم من جهة اخرى ، للدخول في هذا التحول العالمي النوعي ، وذلك من خلال إعلان وليد عهد المملكة الامير محمد ابن سلمان منذ ايام ، وفي مناسبة إطلاق النسخة الأولى للمنتدى السنوي لمبادرة «السعودية الخضراء» في الرياض ، خطة للوصول إلى الحياد الصفري لانبعاثات الكربون بحلول عام 2060 ، كما اعلن عن حزمة مبادرات في مجال الطاقة من شأنها تخفيض الانبعاثات الكربونية بمقدار 278 مليون طن سنوياً بحلول 2030.
ولا شك في أن اعلان وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بتاريخ 18/10/2021، تعليق عمل البعثة الروسية لدى حلف شمال الأطلسي وإغلاق مكتب الارتباط التابع للحلف في موسكو بعد سحب أوراق اعتماد ثمانية من أعضاء البعثة الروسية لدى الحلف بتهمة التجسس ، قد جاء ايضاً على خلفية التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا في العديد من الملفات الشائكة ، وعلى خلفية المخاوف الروسية من سياسات تمدد هذا الحلف إلى المجال الحيوي للاتحاد الفدرالي الروسي . وتأتي السياسة التي تمارسها الولايات المتحدة الاميركية في تطويق شبكة خطوط الغاز الروسية والضغط على الدول الاوروبية لتقليص نسبة اعتماد اوروبا على الغاز الروسي ، لتضاعف من حدة التوترات هذه في الوقت الذي تبحث فيه اوروبا وفي إطار استراتيجية "أمن الطاقة الاوروبية"، عن المزيد من تنويع مصادر انتاج واستيراد الطاقة لاسيما الغاز ، حيث أن ارتفاع الاسعار الذي شهده سوق الطاقة وزيادة الطلب على الكهرباء، يضعان اوروبا امام تحديات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة .
وقبل اقل من اسبوعين على إنعقاد المؤتمر في غلاسكو ، لاحت في الافق ازمة الطاقة في ضوء التوقف القسري في الصين عن انتاج وتزويد الاسواق العالمية بكميات الفحم اللازمة ، وازدياد الطلب على النفط والغاز حيث ادى ارتفاع الاسعار الى خلق تحديات كبيرة للاقتصاد العالمي الذي اخذ يتعافى بعد ازمة ال Covid 19 . تترك ازمة ارتفاع الاسعار انعكاسات هائلة على المنافسة، ومن المعروف أن الدول الصناعية الكبرى قد تمكنت منذ ازمة النفط عام ١٩٧٣ مستفيدة من ميزان القوى السياسي والعسكري الذي كان لمصلحتها، من التاثير على سياسات الدول المنتجة والمتعلقة بحصص الانتاج ، بما ادى الى الحفاظ في غالب الاحيان على التوازن بين العرض والطلب لعدم بلوغ الاسعار مستوى يؤثر على القدرة التنافسية لاقتصاديات الدول الصناعية . وفي إطار هذا التوجه الاستراتيجي القائم حتى اليوم ، تَحَولَ أمنُ الطاقة وفي كل مكوناته ، من حقول الانتاج الى الطرق والممرات البحرية وصولاً إلى الاسواق العالمية قضية جيواستراتيجية، يصعب على اي طرف دولي او اقليمي المساس بها في ظل ميزان القوى القائم . وهذا ما تم التأكيد عليه في القمة الاخيرة التي انعقدت في النمسا بين بايدن وبوتين ، حيث اعلن الرئيس الروسي عن استمرار التعاون على المستوى الدولي من اجل استمرار تدفق الطاقة الى الاسواق العالمية . وما يؤكد على هذه المسألة وموقعها الاستراتيجي ، التحول الذي جرى في تطوير عقيدة حلف شمالي الاطلسي لتشمل "امن الطاقة " نظراً لاهميتها في الاقتصاد العالمي ، وعلى خلفية الصراعات الناشئة، وتحول الصين الى قوة منافسة للولايات المتحدة الاميركية ، وعودة روسيا للعب دور بارز على المستوى الدولي من باب الحرب الاهلية السورية والتوترات في القوقاز وشبه جزيرة القرم، وكذلك تعاظم دورها في اسواق الطاقة من خلال قدرتها الانتاجية وتوقيع عقود طويلة الاجل لشراء الغاز من اهم الحقول في دول آسيا الوسطى التي تحتوي على احتياطات هامة .
تلتقي هذه التوترات الجيوسياسية مع التحذيرات التي اطلقتها الوكالة الدولية للطاقة في تقريرها السنوي حول "الانتقال البطيء جدا" في مجال الطاقة، وتمثل التحذيرات هذه إحدى التحديات التي تواجه مؤتمر غلاسكو حيث تتوقع وكالة الطاقة في ظل هذا الواقع "استمرار معاناة العالم من الاحتباس الحراري ، وحصول "اضطرابات" في أسواق الطاقة، ما لم توظف استثمارات بشكل أسرع في الطاقة النظيفة" .
ويشير التقرير ايضاً إلى ظهور "اقتصاد جديد" من "البطاريات والهيدروجين والسيارات الكهربائية"، كما يلفت لانتباه إلى " أن هذا التقدم يقابله مقاومة من الوضع القائم حالياً والوقود الأحفوري"، وأن النفط والغاز والفحم يشكلون ثمانين بالمئة من استهلاك الطاقة الحالية التي تولد ثلاثة أرباع الخلل المناخي.
جاءت السيناريوهات الثلاثة التي عرضها تقرير الوكالة لتؤكد على عمق الازمة القائمة في مجال التحول الى الحياد الكربوني ، وقد تراوحت هذه السيناريوهات بين تمسك الدول بالسياسات الحالية والبقاء بعيداً عن درجة الحرارة التي تمكن من السيطرة على الاحتباس الحراري ، وبين ايفاء خمسين بالمئة من هذه الدول بالتزاماتها، وبالتالي يبقى ارتفاع درجة حرارة الارض عند حدود °2.1 درجة مئوية، وصولاً الى الخيار المتفائل الذي يقود بحسب الوكالة "إلى تحقيق حياد الكربون للبقاء عند حدود °1,5 درجة مئوية ، الأمر الذي سيتطلب جهودًا كبيرة ولكنه يجلب فوائد كبيرة للصحة والتنمية الاقتصادية على حد سواء".
اخيراً ، يبدو أن الالتزامات التي اعلن عنها الرئيس الاميركي بايدن هذا العام حول تحقيق الحياد الكربوني عام 2050 تصطدم بعقبات داخلية بين الجمهوريين والديمقراطيين , فيما اعلان الرئيس الصيني عن التزام الصين الحياد الكربوني في حلول العام 2060 ، ما يزال خاضعاً للكثير من التساؤلات في ظل ما تنشره التقارير العلمية عن استمرار الصين الدولة الاكثر انتاجاً للتلوث على مستوى ألعالم .
والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل انعقاد مؤتمر غلاسكو، يتعلق بتوفر الارادة السياسية لدى قادة العالم في تجاوز التوترات الجيوسياسية القائمة والمصالح الوطنية والسياسية الآنية ، ومناقشة قضية التغير المناخي على خلفية التهديد الذي تمثله للبشرية ، وبالتالي امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات التي تمهد للانتقال الصارم الى الحياد الكربوني ، وذلك من خلال الالتزام الجدي من قبل الصين والولايات المتحدة الاميركية وغيرهم من الدول بسياسات التخفيف من الانبعاثات الكربونية ، والاستثمار في الطاقة النظيفة ، وايفاء الدول الغنية بالتزاماتها في تحمل كلفة الخسائر والاضرار . في غياب هذه الالتزامات ، تصبح المخاوف مشروعة حول إحتمال تلاشي سياسات مواجهة التغير المناخي على حلبة الصراعات الجيوسياسية وتضارب المصالح الوطنية، وبالتالي إحتمال ان تواجه البشرية تحديات غير مسبوقة في مواجهة الكوارث الطبيعية وارتفاع معدلات الفقر والهجرة وتفاقم حدة الصراع عل المياه؟
*استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية/ كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية ، وباحث في القضايا الجيوسياسية.