د. سوليكا علاء الدين
لم يكن فجر اليوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي يوماً عادياً في تاريخ العالم ، بل شكّل نقطة تحوّل مهمة خاصة في منطقة الشرق الأوسط المليئة بالنزاعات والغارقة في حروب واضطرابات لا نهاية لها، أبرزها الصراع المستمر منذ عقود بين إسرائيل وفلسطين المحتلّة.
لقد أدّت الحرب التي تشنّها إسرائيل حالياً على قطاع غزة إلى تفاقم حدّة التوترات والاضطرابات، وفرضت ضغوطاً هائلة على التوازن الجيوسياسي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. كما أثّرت تداعياتها البعيدة المدى على الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية وموارد الطاقة وأسواقها، وهو ما انعكس بشكل مباشر على الاستراتيجيات والفرص الاستثمارية لقطاعي النفط والغاز في منطقة البحر الأبيض المتوسط مما يزيد من تعقيدات الحرب.
ومع تصاعد لهيب الحرب ، كثرت الأحاديث عن حقول الغاز الواقعة قبالة ساحل غزة، حيث عاد "غاز غزّة" ليتصدّر واجهة المشهد من جديد، لا سيما مع توسّع طموحات إسرائيل ورغبتها في أن تُصبح مركزاً رئيسياً جاذباً لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا التي ترزح اقتصاداتها تحت وطأة عبء انقطاع الغاز الروسي عليها بعد اندلاع الحرب الروسية - الاوكرانية من جهة، وإلى الدول العربية المجاورة من جهة أخرى وذلك من أجل تعزيز حضورها الإقليمي كمصدّر رئيسي للطاقة . فما هو الدور الذي يلعبه هذا الغاز في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحالي؟
احتياطات الغاز في المتوسط
لطالما شكّلت منطقة شرق المتوسّط محور تجاذب جيوسياسي إقليمي ودولي خصوصاً مع انطلاق عمليّات الاستكشاف عن النفط والغاز البرية والبحرية في بعض بلدان المتوسط. وعلى الرغم من عدم وجود معطيات دقيقة تُحاكي حقيقة الثروة النفطية والغازية في المنطقة، إلاّ أنها تُعتبر من المناطق العالمية المهمة لإنتاج النفط والغاز، كما أنّ الظروف الجيوسياسية الراهنة أكسبتها مكانة وأهمية كبيرة لا سيما للعالم الأوروبي الساعي إلى مصدر غاز طبيعي بديل عن الغاز الروسي، يمكن تسييله ونقله عبر البواخر للتعويض عن النقص في الإمدادات الروسية.
تقدّر احتياطات الغاز في حوض شرق المتوسّط بنحو 5.1 في المئة من مجمل الاحتياطات العالمية، حيث تبقى جميع التقديرات في دائرة الاحتمالات القائمة لحين التأكد من وجود مكامن نفطية أو غازية. في العام 2010، قدّر تقرير المؤسسة الأمريكية للمسح الجيولوجي احتياطات الغاز المتوقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط بنحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز، حيث تتضمّن الحقول العاملة فيها نحو 68 تريليون قدم مكعب. وفي العام 2021، أصدرت المؤسسة نفسها تقييماً جديداً للمنطقة، حيث أشارت إلى أنّ المنطقة تحتوي على 286.2 تريليون قدم مكعب من الغاز وذلك بعد إضافة ثلاث مناطق جيولوجية جديدة مقابلة لمصر وإزالتها من خانة الإحتمال والتوقع، أبرزها حقل "ظهر" في 2015 والذي يُعد من أكبر الاكتشافات الغازية في حوض المتوسط والذي يحتوي على نحو 30 تريليون قدم مكعب.
"غزة مارين"
في نهاية تسعينات القرن الماضي(1999-2000)، تمّ اكتشاف احتياطي من الغاز الطبيعي في المياه الاقليمية الفلسطينية قرابة شواطئ غزة، موزعاً على حقلين، يدعى أكبرهما غزة مارين (Gaza Marine) والآخر الحقل الحدودي البحري الشمالي لقطاع غزة (Border Field). وحقق هذا الاكتشاف كونسورتيوم يتكون من شركة "بريتيش غاز" (60 في المئة)، و"شركة اتحاد المقاولين" الخاصة (30 في المئة)، و"صندوق الاستثمار الفلسطيني"(10 في المئة). يقع حقل "غزة مارين" في المناطق الساحلية الفلسطينية قبالة قطاع غزة على عمق 603 أمتار تحت سطح البحر، وعلى بعد 22 ميل غرب غزة وقد قدّرت شركة بريتيش غاز في حينه كمية الاحتياط بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وتتراوح القيمة السوقية الكلية للغاز في الحقلين ما بين 6 مليارات و 8 مليارات دولار أميركي بحسب التقديرات.
الدراسات أشارت إلى أن الحقلين يمكنهما إنتاج الغاز بمعدل 1.5 مليار م3 سنوياً على مدى عمر الحقل المقدر بعشرين عاماً، وفي حال البدء بالانتاج، ستتمكن السلطة الفلسطينية من توفير نحو 200 مليون دولار سنويًا ثمن الطاقة المستوردة من اسرائيل. هذا وتقدّر تكاليف تطوير حقل "غزة مارين" بنحو 1.2 مليار دولار، لكن اسرائيل عارضت تطوير الحقل منذ اكتشافه مُتذرّعة بحجج متعددة، كما رفضت الحكومة الإسرائيلية الاقتراح الأولي لـ"بريتيش غاز" مد خط أنابيب التصدير لنقل الغاز من "غزة مارين" إلى منشآت الغاز الطبيعي المسال في إدكو في مصر (ميس ،7 تموز 2003)، ليبقى توقيت البدء بتطوير المشروع مرتبط بإزالة المعوقات الاسرائيلية.
ويُذكر أنّ الاحتياطات المكتشفة حتى الآن تعتبر ضئيلة نسبياً (نحو تريليون قدم مكعب) في حال مقارنتها بالدول ذات الاحتياطات الغازية الضخمة، مثل إيران (1187 تريليون قدم مكعب)، أو قطر (885 تريليون قدم مكعب)، أو حتى الاحتياطات المكتشفة في الدول المجاورة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مثل مصر (72 تريليون قدم مكعب)، غير أنّ عمليات الاكتشاف تستمر سنوات وعقود طويلة وبالتالي، فإنّ حجم الاحتياط الغازي المكتشف حتى الوقت الراهن قد لا يعكس الكميات المتوفرة بشكل نهائي.
الحق الفلسطيني
وعن احتياطيات النفط والغاز في الأراضي الفلسطينية، قال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) في أحدث تقرير له أنّ علماء الجيولوجيا وخبراء اقتصاديات الموارد الطبيعية أكّدوا أن الأرض الفلسطينية المحتلة تقع فوق خزانات كبيرة من ثروة النفط والغاز الطبيعي، في المنطقة (ج) من الضفة الغربية المحتلة وساحل البحر الأبيض المتوسط قبالة قطاع غزة. إلا أن الاحتلال يواصل منع الفلسطينيين من تطوير حقول الطاقة الخاصة بهم لاستغلالها والاستفادة منها. وبالتالي، يُحرم الشعب الفلسطيني من فوائد استخدام هذا المورد الطبيعي لتمويل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتلبية احتياجاته من الطاقة حيث تُقدّر الخسائر المتراكمة بمليارات الدولارات. وكلما طال أمد منع إسرائيل للفلسطينيين من استغلال الاحتياطيات لديهم النفط والغاز الطبيعي، زادت تكاليف الفرصة البديلة وتزايدت تكاليف الاحتلال الإجمالية التي يتحمّلها الفلسطينيون.
وفق التقرير، تُقدّر الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز الطبيعي في حوض البحر الشامي في شرق البحر الأبيض المتوسط والبالغة 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي بقيمة صافية تبلغ 453 مليار دولار (أسعار 2017)، و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج بقيمة صافية تبلغ نحو 71 مليار دولار. وهي توفر فرصة لتوزيع وتقاسم ما مجموعه حوالي 524 مليار دولار بين الأطراف المختلفة، بالإضافة إلى المزايا العديدة غير الملموسة ولكن الجوهرية لأمن الطاقة والتعاون بين المتحاربين منذ فترة طويلة. كما يمكن أيضاً أن تكون مصدراً لمزيد من الصراع والعنف إذا استغلت الأطراف الفردية هذه الموارد دون إيلاء الاعتبار الواجب للحصة العادلة للآخرين. وما يمكن أن يكون مصدراً للثروة والفرص قد يكون كارثياً إذا تم استغلال هذا المورد المشترك بشكل فردي وحصري، دون المراعاة الواجبة للقانون الدولي والأعراف الدولية.
كما لفت إلى أنّ استغلال السلطة القائمة بالاحتلال للموارد الطبيعية الفلسطينية، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي، يفرض على الشعب الفلسطيني تكاليف باهظة لا تزال تتصاعد مع استمرار الاحتلال. وهذا لا يتعارض مع القانون الدولي فحسب، بل ينتهك أيضاً العدالة الطبيعية والقانون الأخلاقي. فحتى الآن، تراكمت التكاليف الحقيقية وتكاليف الفرصة البديلة للاحتلال حصرياً في مجال النفط والغاز الطبيعي إلى عشرات، إن لم يكن مئات، مليارات الدولارات.
وفي الخلاصة، أكّد التقرير على الحاجة إلى إجراء المزيد من البحوث الاقتصادية والتاريخية والقانونية التفصيلية، مسترشدة بالقانون الدولي، للتأكد من حقوق الملكية المتعلقة بموارد النفط والغاز الطبيعي. ولذلك توصي بإجراء دراسات مفصلة لتحديد حق الشعب الفلسطيني في موارده الطبيعية المنفصلة بوضوح، فضلاً عن حصته المشروعة في الموارد المشتركة المملوكة بشكل جماعي للعديد من الدول المجاورة في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل.
إسرائيل والغاز
بدأت الاكتشافات الأولى للغاز الطبيعي في المناطق البحرية الاسرائيلية خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بعد تأكد شركات النفط الدولية من وجود احتياطات غازية في المياه الاقليمية المصرية. وتركزت جميع الاكتشافات الأولى في المياه الجنوبية المحاذية للمياه الفلسطينية، وكان عدد الحقول الأولى محدوداً جداً، إذ لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة. كذلك كانت الاحتياطات ضئيلة، بحيث أن بعضها تم استنفاذه فعلاً نظراً إلى ضعف الإنتاج. وساهمت كل من شركة "بريتيش غاز" وشركة "نوبل إنيرجي" في مرحلة الاكتشاف الأولى، بالاشتراك مع الشركات الاسرائيلية النفطية المستقلة.
وبسبب محدودية عدد الحقول وضآلة الاحتياطات والإنتاج، (لا سيما حقل "ماري-ب" والذي كان أول حقل لإنتاج الغاز في سنة 2004، حيث تمّ بيع إنتاجه لشركة الكهرباء الاسرائيلية، والتي كانت تستورد أيضاً من الحقول المصرية خلال الفترة 2008-2010)، خيبت هذه الاكتشافات الآمال الاسرائيلية بتحقيق الاكتفاء الذاتي، كذلك إمكانية التصدير، ما دفع الشركات الاسرائيلية إلى مواصلة عمليات الاكتشاف في المياه الشمالية، مُحققة بذلك اكتشافات مهمة وحقول عميقة في الفترة الممتدة بين 2009 و 2013، من بينها الحقلان المهمان "تمار" و" "لڤياثان" وصولاً إلى حقل "كاريش". الاكتشاف الاسرائيلي الأخير والذي يبعد نحو 4.5 كم فقط عن المياه اللبنانية، وهو الأقرب إلى الحدود المائية اللبنانية حيث تمّ تقدير احتياطات الغاز المؤكدة فيه بنحو 1.3 تريليون قدم مكعب. وقد بلغ حجم احتياطي الغاز المؤكد، والمكتشف في المياه الشمالية لإسرائيل نحو 1000 مليار م3، وهو رقم قابل للتغيير في ضوء عمليات الاستكشاف المستمرة.
بعد أربعة أعوام تقريباً على اكتشافه، بدأ حقل "تمار" بالإنتاج في أواخر آذار 2013 ، وأصبح الإنتاج الأولي جزءاً من الطلب المحلي، إذ تم تقدير احتياط الحقل بنحو 9 تريليونات قدم مكعب. وقد تمّ ربط إنتاج حقل "تمار" بمنصة بحرية في الميناء الجنوبية بالقرب من حقل "ماري-ب"، بدلاً من إيصاله إلى أقرب منطقة ساحلية، وهي حيفا في الشمال، ثم ربطه بشبكة الغاز الوطنية.
و بدأت إسرائيل بتصدير الغاز الطبيعي لأول مرة مع بدء الإنتاج من حقل لڤياثان للغاز في كانون الثاني/يناير 2020. وقام الحقل بتوريد الغاز إلى مصر عبر خط أنابيب غاز شرق البحر المتوسط (EMG)، المعروف أيضاً باسم خط أنابيب العريش-عسقلان، والواقع تحت البحر بطول يبلغ 90 كم بين عسقلان في إسرائيل والعريش في مصر. وقد خططت إسرائيل وقبرص واليونان لبناء خط أنابيب شرق المتوسط (إلى أوروپا) لنقل الغاز الطبيعي من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد بدأ تشغيل خط الأنابيب الممتد على طول 2100 كيلومتر تحت سطح البحر والبرية في منتصف عام 2020.
الاستراتيجية التوسعية
لا شك أن طموحات ونوايا اسرائيل التوسعية تُشكّل خطراً واضحاً وداهماً على مستقبل الاكتشافات العربية ويُعيق بصورة جدية مسار النفط والغاز في حوض شرق المتوسط وعائداته. ولقد منحت الاكتشافات في المياه المصرية وغزة، اسرائيل فرصة لتحقيق هدفها الاستراتيجي بالوصول إلى توازن جيو-استراتيجي إضافي مع الدول العربية المجاورة، عبر اكتشاف البترول، للمساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وعدم الاعتماد على الاستيراد من الدول العربية المجاورة أو عبر الأراضي العربية.
وخلال السنوات الماضية، أبرمت إسرائيل اتفاقيات تصدير للغاز تحديداً من حقلي "تمار" و"ليفياثان" مع كلّ من مصر والأردن على الرغم من الاعتراض الشعبي في حينه عليها. وقد ركزت الأهداف الاسرائيلية الأولية عند اكتشافها هذين الحقلين على استغلال الصادرات في تعديل ميزان القوى مع الدول العربية لمصلحتها من خلال التصدير إلى دول السوق الاوروبية، التي تضع في سلم أولوياتها الطاقوية تنويع مصادر وارداتها من الغاز، وتقليص الاعتماد الكبير على واردات الغاز الروسي.
ولاعتبارات اقتصادية ومن أجل تعزيز مكانتها الجيوسياسية توجّهت بوصلة اهتمامات إسرائيل وبمساندة من الولايات المتحدة الاميركية نحو أسواق جيرانها من الدول العربية القريبة تحديداً تلك الموقعة معها معاهدات سلام في مسعى منها كي تصبح محوراً لصناعة الغاز في شرق المتوسط وشريكاً في قطاع الطاقة العربي الاستراتيجي. ففي العام 2016، وقّعت شركة "Noble Energy" صفقة تصدير بقيمة 10.5 مليار دولار مع شركة الكهرباء الوطنية (NEPC) في الأردن المملوكة من الدولة. ومن ثمّ وقّعت بعد عام إلى جانب شركة "Delek Drilling" صفقة مماثلة مع شركة "Dolphinus Holdings" المصرية بقيمة 15 مليار دولار، بحيث تم عكس مسار خط الأنابيب الحالي، الذي كان يعمل سابقاً لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، من أجل السماح بتدفّق الغاز من إسرائيل إلى مصر التي أصبحت مركزاً إقليمياً لتسييل الغاز الطبيعي وتصديره.
ومع التحول من دولة مستوردة صافية للوقود الأحفوري إلى مصدّر للغاز الطبيعي، تطمح إسرائيل أن تصبح مصدراً رئيسياً للغاز. وفي العام 2022، قامت إسرائيل بإنتاج نحو 22 مليار متر مكعب من الغاز، موزعاً بين حقل "ليفياثان" ( 11.58 مليار متر مكعب) وحقل" تمار"( 10.2 مليارات متر مكعب) حيث يغطي إنتاجها 75 في المئة من الاستهلاك المحلي، بينما قامت بتصدير 9.2 مليارات متر مكعب إلى مصر والأردن. هذا وكان من المتوقع أن تزداد نسبة الإنتاج والتصدير الاسرائيلي في العام 2023، خاصة لمصر. كما حققت ايرادات الغاز الإسرائيلي في العام نفسه رقماً قياسياً جديداً، بعد أن وصلت إلى نحو 1.68 مليار شيكل (456.5 مليون دولار أميركي)، حيث تأتي معظم عائدات الغاز الإسرائيلي البالغة نحو 977 مليون شيكل (265.3 مليون دولار)، من حقل "ليفياثان".
وعلى إثر عملية "طوفان الأقصى"، أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية توقف الإنتاج مؤقتاً من حقل غاز "تمار" وقامت بتعليق الصادرات عبر خط أنابيب غاز شرق المتوسط (EMG) تحت سطح البحر المُمتد من عسقلان في جنوب إسرائيل إلى مصر، موضحة أنها ستبحث عن مصادر وقود بديلة لتلبية احتياجاتها، ونتيجة لذلك انخفض إنتاج الغاز الاسبوعي بنسبة 35 في المئة كما تهاوت صادراتها من الغاز الطبيعي بنسبة 70 في المئة لتعود وتعلن شركة "شيفرون الاميركية" عن عودة تزويد العملاء في إسرائيل والمنطقة بالغاز الطبيعي من حقل غاز "تمار" البحري بناءً على طلب وزارة الطاقة استئناف الإنتاج بعد توقف دام مدّة خمسة أسابيع.
وفي خطوة مثيرة للاهتمام والاستغراب في توقيتها، أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر، عن منحها 12 رخصة لست شركات للتنقيب عن الغاز الطبيعي شمالي وغرب حقب "ليفياثان" قبالة منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط بهدف خلق المزيد من المنافسة وتنويع الموردين.
الفيتو المعرقل
لم يعد خافياً على أحد أن اكتشافات النفط والغاز في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط أضافت بعداً جديداً على الصراع العربي- الاسرائيلي، نظراً إلى ممارسة اسرائيل ضغوطاً سياسية وعسكرية لمنع تطوير حقول الغاز العربية المُكتشفة، كما هو حاصل مع حقل "غزة مارين" الفلسطيني المُكتشف منذ العام 2000 والذي لم يتم تطويره حتى اليوم بسبب العراقيل الاسرائيلية المُستمرّة. وقد شكّلت عرقلة تطوير الحقل أول صراع بترولي في شرق المتوسط.
في حزيران 2023، صدر بيان إعلامي عن مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي مفاده أنّ بنيامين نتنياهو وافق على تطوير حقل الغاز الطبيعي البحري قبالة سواحل غزة. وفي إعلانه عن هذه الخطوة بشأن مشروع "غزة مارين"، قال مكتب نتنياهو إن التقدم سيتوقف على "الحفاظ على احتياجات دولة إسرائيل الأمنية والدبلوماسية".
وسائل الإعلام الاسرائيلي أشارت إلى أن القرار الإسرائيلي الجديد جاء بعد مفاوضات مكثفة ومعقدة بين إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية. وذكرت القناة 13 الإسرائيلية أن الموافقة مبدئية وأن تنفيذ المشروع سيتطلب "التنسيق بين الأجهزة الأمنية والحوار المباشر مع مصر بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية بهدف تطوير الاقتصاد الفلسطيني والحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة".
في المقابل لم يصدر أي تعليق من السلطة الفلسطينية التي أشارت مصادرها إلى أنّه لم يتم إبلاغها رسمياً بالقرار الاسرائيلي وبالتالي لا يمكنها الاعتماد على ما تناقلته وسائل الإعلام، مع الإشارة أيضاً إلى أنّ خبر موافقة الحكومة لم يتم نشره في الصحف الاسرائيلية وسط تكتّم شديد حول الموضوع. وهو ما يثير أكثر من علامة استفهام حول مدى صحة ما يتم تداوله، ويطرح بالتالي ثلاث أسئلة رئيسية حول حقيقة موافقة إسرائيل على تطوير الحقل، وهل الموافقة تشمل الإنتاج والتصدير ومن هو المُستفيد من عائدات غاز غزة؟
الحرب والغاز
بعد الصدمة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى" والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 1400 شخص، وضعت إسرائيل بنك أهداف رئيسية معلنة لحربها على غزة يأتي على رأسها تدمير القدرات العسكرية لحركة حماس وإنهاء سيطرتها بشكل قاطع على قطاع غزة. وبدوره وضع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في أحدث تقاريره الصادرة عن الصراع الراهن، ما وصفه بـ"المبادئ العامة" التي تنتهجها إسرائيل في حربها الحالية، حيث تضمّنت تلك المبادئ الإسرائيلية 3 محاور رئيسية على الشكل الآتي: أولاً، ضمان عدم قدرة "حماس" على شن هجمات في المستقبل؛ ثانياً، استعادة ثقة الإسرائيليين بقدرة حكومتهم وجيشهم على توفير الأمن لهم؛ والثالث والأخير هو إعادة تأسيس قوة الردع الإسرائيلية بنظر الأصدقاء والخصوم في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ومع تفاقم وتيرة الحرب وتصاعد حالة عدم اليقين الجيوسياسية وغياب أفق الحلول القريبة، تتعالى الموجات المُحذّرة من هدف إسرائيل السري وراء حربها على غزّة والمتمثل في السيطرة على الثروة الغازية للقطاع من أجل زيادة الاحتياطيات وتحسين خطط تصدير الغاز لديها والأهم تعزيز فرصتها في السيطرة على مصدر الغاز شمال وشرق البحر المتوسط وتأكيد قوّة دورها في صناعة غاز المتوسط.
في المقابل، هناك من يرى بأنّ حصر دوافع الحرب التي تشنها اسرائيل فقط وراء الاستيلاء على غاز غزّة هو أمر مُعقّد ومُضخم، على اعتبار أنّ حركة حماس هي من استخدمت عنصر المفاجأة و باغتت الاسرائيليين بتوقيت ونوعيّة عملية "طوفان الأقصى". هذا فضلاً عن أن "غزة مارين" هو أصغر حقل غاز في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط بالمقارنة مع الحقول المستكشفة الأخرى بمخزون يقدّر بنحو 1.4 تريليون "قدم مكعب" وليس "متر مكعب" وبحصّة تبلغ 27.5 في المئة لصندوق الاستثمار الفلسطيني فقط. بالإضافة إلى أنّ اسرائيل تمتلك أيضاً حصّة من الغاز الموجود في السواحل الفلسطينية تحديداً الحقل الحدودي (Border Field) والذي يعتبر امتداداً لحقل "Noa South" الواقع في المياه الإقليمية الإسرائيلية.
وجهة النظر هذه لا تنفي أطماع إسرائيل التوسعية، لا سيما وأنّ مسألة السيادة على حقول الغاز في غزة هو أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل التي تسعى إلى بقائها خاضعة للكثير من الاعتبارات الأمنية والعسكرية. كما تولي أهمية خاصة لضمان أمن منشآت الغاز الطبيعي في البحر، وتعتبره من أولويات أمنها القومي؛ لكن الربط بين عملية "طوفان الأقصى" و"غاز غزة" هو أمر مبالغ به إعلامياً، وبانتظار ما ستؤول إليه سيناريوهات الحرب الراهنة، قد تكون هذه المقاربة الأكثر واقعية وفق مصادر مطلعة على تطورات ملف الغاز في الشرق الأوسط. وهذا يعود بالذاكرة إلى الحرب التي شنها الجيش الاسرائيلي على القطاع في العام 2014، حيث أعلنت إسرائيل حينذاك أنّ الهدف من العملية العسكرية هو وقف إطلاق الصواريخ من غزة إلى إسرائيل، في حين اعتبرها البعض ذريعة اسرائيلية لبدء الغزو من أجل تحقيق هدف آخر لم يتم تسليط الضوء عليه ألا وهو السيطرة على موارد الغاز في غزّة.
يقع قطاع الغاز في قلب التوترات والصراعات التي تشهدها منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، لا سيما في ظل الموقع الإقليمي الذي تحتله إسرائيل على هذا الصعيد، رغم أن حجم إنتاجها وصادراتها لا تعتبر ضخمة وفق المعايير الدولية. عناوين وأهداف كثيرة رسمتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ولا شك أنّ استمرار الحرب يُشكّل سلسلة من المخاطر الأمنية الواضحة لعمليات الطاقة في شرق المتوسط، الذي من المتوقع أن يزداد سوءاً في حال تصاعد وتيرة الحرب وتفاقم التصعيد وتمدّده خارج نطاق غزة؛ ليبقى السؤال عمّا إذا كانت إسرائيل تسعى من وراء حرب الـ2023 إلى الاستيلاء على غاز غزة، هو سؤال نهاية الحرب الذي ينتظر الإجابة الحاسمة.