فعلت جنوب افريقيا ما لم تفعله أي من الدول العربية. تجرأت على مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. واستحقت بذلك امتنان كل احرار العالم المؤمنين بالعدالة الدولية وإقرار الحق. كان بمقدور عدد كبير من هذه الدول القيام بهذه الخطوة البالغة الأهمية، فمعظم الدول العربية وإسرائيل أطراف في "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" التي تنصّ مادتها التاسعة على: "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أيٍّ من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير هذه الاتفاقية، أو تطبيقها أو تنفيذها، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية".
هل احجمت هذه الدول عن التماهي مع بريتوريا خوفا من عواقب قد تترتب على إغضاب إسرائيل والولايات المتحدة، ؟ ليس مهما الجواب، المهم انها لم تفعل بينما كانت جنوب افريقيا حاضرة للفعل رغم بعدها الجغرافي الهائل عن حدود فلسطين.
فعلتها بريتوريا لانها صاحبة التجربة النضالية الكبيرة في مواجهة التمييز العنصري، ولان نظام "الابارتهايد" لايزال حياً في ذاكرتها الجمعية وتعرف مرارته، ولان حكامها اليوم هم احفاد نلسون مانديلا الذي قال: "نتسامح، لكن لا ننسى".
وهكذا فان لمقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية دلالات عميقة لا تخفي على أحد. ولعلّ قيام جنوب أفريقيا بهذه الخطوة الشجاعة يكتسب أهمية وزخمًا من تلك التجربة الفريدة التي خاضتها، بل من النافذة التي تنظر بها هذه الدولة الأفريقية الى العالم كله، وينسحب جزء منها بالقطع على قضية الشعب الفلسطيني، لأنه واجه مثلما واجهت هي في السابق احتلالا استيطانيًا بشعا، يرفع جدران الفصل العالية التي حوّلت قطاع غزة والضفة الغربية إلى سجنَين كبيرين، ويمارس ضد من تبقى من بقي صامدا في ارض فلسطين تمييزًا واضحًا فاضحًا.
ربما لهذا السبب يخشى الإسرائيليون من أن ذهابهم إلى محكمة العدل الدولية، للمرة الاولى وبيد جنوب أفريقيا بالذات، يشكل ضغطًا دوليًا شديدًا عليهم، يجب التعامل معه بجدية، وهو ما جرى بالفعل حين حضرت إسرائيل المحاكمة، وسعت بكل ما اوتيت من دعم أميركي وغربي الى الدفاع عن نفسها، بينما كانت هناك أصوات داخلها غارقة في التطرف والغطرسة تنادي بعدم المثول أمام المحكمة أصلًا.
وإذا كان ثمة إسرائيليين واثقين من ان المحكمة اذا ما توصلت فعلا الى الإقرار بالادانة، فان المخرج سيكون بالذهاب في النهاية إلى مجلس الأمن، حيث ستسقطه حليفتها اميركا باستخدام حقّ الفيتو، لكن هؤلاء لا يدركون أن ما جرى في محكمة العدل الدولية، هو إعلان سقوط إسرائيل أخلاقيًا، وهذا يمثل مقدمة لثمن سياسي باهظ جدًا ستدفعه حتمًا، ومعها بالطبع واشنطن إن أصرّت على الدفاع عن آلة القتل الإسرائيلية بلا تحسّب أو تروٍّ.
لقد سلطت الدعوى الأضواء على ما يجري في فلسطين، وفي غزّة على وجه الخصوص، من فظائع وجرائم يفترض بها أن تحرّك العالم والضمائر الإنسانية فتدفعها للتدخل من أجل وقف العدوان.
واذا كانت إسرائيل لن تلتزم بقرار وقف الحرب إن صدر من المحكمة، الا ان ادانتها وفضحها أمام العالم على هذا النحو- يكرّس تجريدها من الصورة التي سوّقتها عقودًا عن نفسها، وتزيد في المقابل من تعاطف العالم مع القضية الفلسطينية.
الخطوة الافريقية الجنوبية ستجعل من الصعوبة على إسرائيل أن تمضي قدمًا في خُطة تهجير الفلسطينيين، سواء خارج قطاع غزة- كما هو مطروح الآن- أو في الضفة الغربية، كما تعتزم تل أبيب مستقبلًا. نعم هذه الخُطة يفشلها بالأساس صمود أهل غزّة، وتمسّك غالبيتهم الكاسحة بالبقاء في أرضهم، حتى لو كان العيش فيها غاية في الخطر مع استمرار الحرب، أو غاية في الصعوبة بعد أن تضع الحرب أوزارها، جراء تدمير البنية الأساسية للحياة هناك، لكن اتهام إسرائيل بـ "إبادة جماعية"- واضطرارها لأن تدفع عن نفسها التهمة – سيجعل يدها مغلولة في طرد الفلسطينيين من أرضهم.
صورة إسرائيل بعد الحادي عشر من كانون الثاني 2024 ستكون مختلفة عما كانت قبله، ولم يكن لهذا أن ينشأ، لولا الخطوة المهمة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا، ثم أعدت لها الحجة الدامغة، وعرضتها بلسان صريح، لا يعكس قدرة نخبتها على إدارة الأزمة فحسب، بل أيضًا إيمانها بأن التصدي للقتل والظلم والتمييز واجب أخلاقيّ على الدول.
أمين قمورية