بعد المجازر في غزة
هل تعود الثقة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان؟

04.06.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بقلم الدكتور كمال ديب- كندا

أصيب العرب بصدمة شديدة من مجازر اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني خلال الأشهر السبعة الماضية، وهي مجازر غير مسبوقة في المنطقة العربية منذ 800 سنة على الأقل: ففي العام 1096 ميلادياً ارتكب الفرنجة سلسلة من المجازر في بلاد الشام بلغ عدد ضحاياها 300 ألف وأبرزها ذبح 70 ألف شخصٍ في القدس عام 1099. وفي 1258 غزا المغول بغداد وارتكبوا المجازر بأهلها فبلغ عدد ضحاياهم ما بين 500 و 800 ألف. أمّا في قطاع غزة، فقد ارتكب الجيش الاسرائيلي الإبادة فسقط 35 ألف فلسطيني وجرح 80 ألفاً تحت دمار هائل في المدن قد تبلغ كلفته 60 مليار دولار على الأقل.

فإذا كان العرب في حال صدمة أمام هذه الأهوال، فما بال الدول الغربية التي دأبت تبشّرنا بالديمقراطية وحقوق الانسان وتتحفنا بتوقعات عن مستقبل مشرق للبشرية؟ نعم هكذا كان دأب العالم الغربي منذ فلاسفته كانط وشوبنهاور وروسو ولوك وستيوارت ميل وغيرهم الكثير، ممن أكّدوا أنّ الانسان يسير نحو الارتقاء ونحو الأفضل، ومن يعلم - كانوا يقولون - فربما أصبحت البشرية أمّة واحدة يوماً ما. فكانت توقعاتهم هراءً تهاوى تحت جزمة الإسرائيلي ومن ورائه الأميركي.

المجازر وسلوك البشرية

عودةٌ إلى مؤرخين موثوق بأعمالهم تؤكّد لنا أنّ المجازر والحروب هي سلوك البشرية الدائم فيما السلم والإزدهار هما الاستثناء.

ففي عمله الضخم The Study of History، يستنتج المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي أنّه بعد دراسته لعشرة آلاف سنة من عمر البشرية استنتج أنّ 95 بالمئة من الزمن كان مليئاً بالحروب والأوبئة والمجازر التي ارتكبها البشر. أمّا استنتاجه الثاني فهو أنّ المجازر لم تضمحل وتتراجع مع تقدّم البشرية كلمّا اقتربنا من الوقت الحاضر، بل هي كانت تسير من سيء إلى أسوأ وأعداد الضحايا تزيد بشكل دراماتيكي. وهكذا فإنّ سلسلة الحروب والمجازر التي شهدها القرن العشرين فاقت كل ما سبقه من قرون: فقد شهد العالم أهوال الحربين العالميتيين الأولى والثانية وشاهد حروباً ومجازر في كافة القارات، ما جعل عدد ضحايا القرن العشرين يزيد عن المئة مليون نسمة وكلها صنعها البشر المفترض أنّهم يتطوّرون ويتعارفون.

وفي القرن العشرين أيضاً شهد العالم سلسلة من الإبادات. فقد بلغ عدد ضحايا الإبادة بحق الأرمن والسريان والإغريق من سكان السلطنة العثمانية خلال 25 عاماً قبل 1923 المليوني نسمة، وارتكبت ألمانيا النازية المحرقة بحق يهود أوروبا (وحسب المراجع المعتمدة بلغ عدد ضحايا المحرقة مليونين إلى 6 ملايين نسمة) وذلك في السنوات 1941-1945. وأثناء التحولات الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين (1922-1953) مات نحو 10 ملايين من الجوع، وفي الصين في عهد ماوتسي تونغ مات نحو 15 مليون صيني من الجوع والمرض (1958-1962)، وفي كمبوديا (في حقبة الخمير الحمر بقيادة بول بوت) قضى مليونا إنسان من الجوع والمرض (1971-1975). وفي رواندا عام 1994 أُبيد نحو 900 ألف نسمة.

إبادة وقتل جماعي

وتتراوح التصنيفات في هذه الجرائم التي ارتبكها الانسان ضد أخيه الانسان، فبعضها دعاه الخبراء محرقة أو إبادة، وبعضها دعوه جرائم قتل جماعي وجرائم ضد الانسانية، أو تصفية عرقية وجرائم حرب. ولذلك فيمكن اعتبار ضحايا الغزو الياباني للصين وجنوب آسيا بأنّه ضمن هذه الجرائم، حيث بلغ ما قتله الجيش الياباني في هذه البلدان 30 مليوناً، وكذلك مجازر بلجيكا في الكونغو في أفريقيا (1885-1908) والتي بلغت 5 ملايين نسمة، ومجازر فرنسا في الجزائر أثناء حرب التحرير الوطني حيث قتل الجيش الفرنسي نحو مليون ونصف إلى مليوني جزائري من 1956 إلى 1962.

ولا يوجد بلد في العالم لم تصطبغ أرضه بدماء البشر من أندونيسيا إلى هاواي، ومن فييتنام إلى نيكارغوا، ومن بيافرا إلى الكونغو، ومن المكسيك إلى البوسنة. وكلك المنطقة العربية كانت شاهدة على قرون من المجازر والحروب في المرحلة المعاصرة أم في التاريخ القديم والوسيط: من حروب الفرس والإغريق، إلى فتوحات الاسكندر المقدوني، والحروب الرومانية والفتح العربي الإسلامي، وحملات الفرنجة وغزوات التتر المغول، وفتوحات السلطنة العثمانية، ثم الاحتلال البريطاني - الفرنسي واتفاقية سايكس بيكو التي جزّأت المنطقة العربية وزرعت كيان اسرائيل في وسطها.

مآسي عربية

فهل ننسى حرب الإبادة الايطالية بحق شعب ليبيا وسقوط نحو 250 ألف ليبي (1912-1943)، أم الإبادة الفرنسية ضد الشعب الجزائري أثناء حرب التحرير، أم حرب بريطانيا لاحتلال العراق في الحرب العالمية الأولى وسقوط عشرات آلاف العراقيين ضحايا الغزو، أم حروب بريطانيا لإخضاع السودان وثورة أم درمان والخرطوم ضد الانكليز؟ وغيرها الكثير مما شهده العرب وتحمّلوه، وهم ما زالوا يشهدون نفس المأساة تتكرّر أمامهم اليوم في فلسطين الجريحة، وآمالهم هي السلام والاستقرار والنهضة الموعودة، وأن يكون لهم مكان تحت الشمس مثل باقي الشعوب الحية.

ألم يكتفِ الجنس الأوروبي الأبيض - وخاصة في بلاد الأنغلوساكسون - بهذه المجازر وبحروب الإبادة ضد الشعوب المسالمة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟ ألم يشبع من فتك دماء الشعوب حتى يكرّر أعماله الوحشية اليوم في فلسطين الجريحة؟ كل ما يطلبه العرب هو أن يتركهم الاستعمار الغربي الجديد أن يعيشوا بسلام واستقرار لتحقيق نهضتهم الموعودة، وأن يكون لهم مكان تحت الشمس، مثل باقي الشعوب الحية.