كتب المدير التنفيذي لمركز مأمون بحيري- الخرطوم، البروفيسور مكي مدني الشبلي على الموقع الإلكتروني لصحيفة سودانايل المقال التالي:
صَاحَبَ مُثابرة مصر، الجديرة بالثناء والتقريظ، على وقف الحرب في السودان ومعالجة جذورها، مُطالبة بعض السودانيين باستعادة حلايب وشلاتين ومنطقة حلفا من المصريين، في ذات الحين الذي يشهد استعار الحرب الاستئصالية في البلاد. وتُشَابِه هذه المُطالبة في هذا الوقت تحديداً مطالبة الشخص للمُزَيِّن (الحَلَّاق) باسترداد شَعره الذي قصه قبل عشرات السنين، في نفس الوقت الذي يتعرض فيه قلبُه وأحشاؤه للافتراس!!!
وعزا البعض الآخر من السودانيين معارضته لأي دور إيجابي مصري في السودان لما يُسمَّى فترة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري في السودان (1898-1955). حيث شهد عام 1898 نجاح البريطاني كتشنر بمساعدة مصر، المُستعمَرة نفسها فعلياً بواسطة بريطانيا، وصورياً بواسطة العثمانيين، في هزيمة الدولة المهدية في السودان بعد نجاح المهدي في تحريره من الحكم التركي بسقوط الخرطوم ومقتل غردون باشا في يناير 1885. وورد أنه عندما أُحْضِر رأس غردون للمهدي قال إنه كان يود أن يُؤتَى بغردون حيّاً كي يُدخله في الإسلام ثم يقايض به الحكومة الإنجليزية على سجينها عُرابي باشا، لأن المهدي كان يأمل أن يساعده عُرابي في فتح مصر وتحريرها من الاستعمار البريطاني العثماني.
ذلك أن نفس فترة الثورة المهدية قد شهدت ثورة عُرابي ضد الاستعمار البريطاني الذي استعمر مصر لمدة 74 سنة (1882-1956)، استعمرت بريطانيا أثنائها السودان لمدة 57 سنة خلال الفترة (1898-1955)، أي أن فترة استعمار بريطانيا لمصر أطول من فترة استعمارها المتزامن للسودان بنحو 17 سنة. علماً أنه قد تناوب على منصب الحاكم العام قي السودان خلال الفترة 1889-1955 تسعة حكام عامُّون جميعهم بريطانيون بدءاً بفرانسيس وينجت الأسكتلندي المولود في جلاسجو، وانتهاءً بأليكساندر هيلم الإسكتلندي المولود في درمافيس. ولم يشغل منصب الحاكم العام في السودان طيلة فترة ما يُعرف بالحكم الثنائي مصريٌ واحدٌ.
ويُذكر أن الثورة العُرابيَّة العظيمة في مصر ضد المستعمر البريطاني، المتزامنة مع الثورة المهدية الظافرة في السودان ضد الحكم التركي، قد تم إجهاضها بخيانة مزدوجة من ضُباط عُرابي، والخديوي توفيق (والي مصر من قِبَل الدولة العثمانية). وبعد هزيمته اشترط عُرابي استسلامه شخصياً لعُهدة الحكومة البريطانية وليس الخديوي توفيق، وهو ما أمَّن بهِ علي حياته من حكم الإعدام علي يد الخديوي توفيق، وضمن له ذلك الاستسلام النفي لجزيرة سيلان )سريلانكا(.
ويَجْدُر بالذكر أن قوات الاحتلال البريطانية غادرت مصر في 18 يونيو 1956 بعد توقيع معاهدة 19 أكتوبر 1954 مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التي تنص على جلاء القوات من قناة السويس خلال عشرين شهراً. في حين غادر آخر جندي بريطاني السودان قبل ذلك التاريخ بأكثر من 6 أشهر في 1 يناير 1956.
وللمُقاربة والمفارقة فقد كانت أمريكا خلال الفترة 1492-1800 مُستباحةً للمستعمرين الأوربيين من إسبانيا، والبرتغال، وبريطانيا، وفرنسا وهولندا. ونهبوا كل مواردها الطبيعية واستباحوا رأس مالها البشري وهجَّروا السكان الأصليين وشتتوهم واستعبدوهم وأبادوهم، وأنشأوا في أمريكا العديد من الدول الاستعمارية الاستيطانية.
بَيْدَ أن الأمريكيين لم يستمرؤوا البكاء على اللبن المسكوب، بل انتظموا في ثورة شاملة ضد ذلك الاستعمار الأوربي المركَّب خلال الفترة 1775-1783، حيث انتظمت الثورة الأمريكية أرجاء القارة الشاسعة حتى ألحقت الهزيمة بكل المستعمرين الأوربيين وتم تكوين النظام الفدرالي الحالي وتأسيس أعظم دولة في العالم.
العِبْرة والاعتبار أن الأمريكيين لم يَعمِيهم الحقد على الدول الأوربية التي استعمرتهم لثلاثة قرون، ولم يُثنيهم التكالب اللاحق من الأوربيين على أمريكا عن الاستغلال الذاتي لمواردها الهائلة، بل ثابروا لتحويل أمريكا "مَلْطَشَة" الاستعمار الأوربي السابقة إلى أعظم دولة في العالم يستجدي المستعمرون الأوربيون السابقون حمايتها، بل ورحمتها. وللمفارقة فقد تبرّعت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947 في إطار "خطة مارشال" بمبلغ 14 مليار دولار (تعادل نحو 200 مليار دولار حالياً) كمساعدات اقتصادية وتقنية للدول الأوروبية التي استعمرت أمريكا سابقاً لإعادة إعمار ما دمرته الحرب والتعافي من الفقر والبطالة درءاً لخطر انتشار الشيوعية في تلك الدول.
العبرة الأهم، في هذا الوقت العصيب على السودان والسودانيين عدم الإلتهاء باسترجاع ما أزاله المُزَيِّن (الحَلَّاق) من شَعْر، وربما أظافر، والدأب على التآزر محلياً (بين قوى ثورة ديسمبر)، وإقليمياً (خاصة مع مصر والسعودية)، ودولياً (على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف) لتعجيل نجدة القلب والأحشاء من الافتراس!!!