في ظل التقلبات الحادة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، والتي تتراوح بين مخاطر ركود الاقتصاد الأميركي وتوقعات بتحوّل في السياسة النقدية، فضلًا عن تصاعد حدّة التوترات الجيوسياسية، نجح الذهب في الحفاظ على بريقه وسط حالة عدم اليقين التي تسود الأسواق. فقد دفعت التوقعات بتخفيض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية، وعلى رأسها الفيدرالي الأميركي، أسعار الذهب إلى تحقيق مستوى قياسي جديد بلغ 2531.6 دولاراً للأوقية الواحدة.
وتشير أداة "فيد ووتش" التابعة لمجموعة "سي.إم.إي" إلى أن غالبية المتداولين (46 في المئة) يتوقعون أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في الاجتماع المقبل في أيلول/سبتمبر، مع توقع نسبة أقل (36 في المئة) لخفض أكبر بمقدار 50 نقطة أساس.
وشهدت أسعار الذهب تقلبات متفاوتة، حيث افتتحت الأسبوع بارتفاعات محدودة، إلا أنها اتجهت نحو انخفاض أسبوعي مسجلة 2488.74 قبيل خطاب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، وذلك في ظل الضغوط الناتجة عن تعافي الدولار الأميركي وارتفاع عوائد السندات الأميركية لأجل عشر سنوات، مدعومة ببيانات سوق العمل الأميركية التي أظهرت زيادة غير متوقعة في معدل البطالة.
انخفاض على الأبواب
وفي خطابه الرئيسي في المؤتمر الاقتصادي السنوي لبنك الاحتياطي الفيدرالي في جاكسون هول، في ولاية وايومنغ، قال باول إن البنك المركزي يستعد لخفض أسعار الفائدة الرئيسية، التي وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ 23 عاماً، وذلك في ضوء التقدم المحرز في هزيمة التضخم تقريباً وتباطؤ وتيرة النمو في سوق العمل. فالتضخم أصبح في متناول هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المئة، مما يقدّم موافقة صريحة على تيسير السياسة النقدية في وقت قريب.
وأضاف : "لقد حان الوقت لتعديل السياسة. إن اتجاه المسار واضح، وسيعتمد توقيت ووتيرة تخفيضات الأسعار على البيانات الواردة، والتوقعات المتطورة، وتوازن المخاطر".
وأكد رئيس الفيدرالي أن تخفيضات أسعار الفائدة المستقبلية يجب أن تهدف إلى دعم نمو الاقتصاد ودعم التوظيف، خاصة في ظل تباطؤ وتيرة التوظيف خلال تموز/يوليو الماضي.
وفي الوقت الذي انتظر العالم خطاب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي للحصول على مؤشرات على مقدار الخفض الذي سيجريه المصرف المركزي لأسعار الفائدة هذا العام، إلا أن باول لم يقم بتحديد موعد لبدء تخفيضات أسعار الفائدة أو حجمها، في حين تشير إلى إعلان البنك المركزي الأميركي عن خفض متواضع بمقدار ربع نقطة مئوية في سعر الفائدة القياسي خلال اجتماعه المقرر عقده في منتصف شهر أيلول /سبتمبر المقبل.
خطاب داعم
تصريحات جيروم باول حول السياسة النقدية، والتي عززت التوقعات بخفض أسعار الفائدة في سبتمبر /أيلول المقبل، ساهمت في استقرار الذهب قرب مستويات قياسية جديدة، مدعومًا أيضاً بضعف الدولار. فقد ارتفع سعر الذهب في المعاملات الفورية ظهر يوم الإثنين الموافق 26 آب/أغسطس بنسبة 0.6 في المئة ليصل إلى 526.15 دولار للأوقية ، وهو ما يقل بنحو خمسة دولارات فقط عن أعلى مستوى تاريخي سجله الأسبوع الماضي.
ماذا تقول التوقعات؟
رغم السياسة النقدية المُشددة التي يتبعها البنك الفيدرالي الأميركي وارتفاع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ 23 عامًا، إلا أن الذهب استطاع تحقيق مكاسب قوية خلال العامين الماضيين، مدفوعًا بزيادة الطلب عليه من قبل البنوك المركزية والمستهلكين الآسيويين كملاذ آمن في فترات التحديات الاقتصادية الجيوسياسية العالمية، لا سيما مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتفاقم التوترات في الشرق الأوسط.
وتتداول الأوساط الاقتصادية توقعات بوصول أسعار الذهب إلى مستوى تاريخي جديد يتجاوز حاجز 3 آلاف دولار للأوقية، مع استمرار هيمنة الذهب على اهتمام المستثمرين العالميين، وهو ما قد يسبب تحولًا كبيرًا في ديناميكيات السوق.
وصرّحت سابرين شودري، رئيسة تحليل السلع الأساسية في BMI، بأن عام 2024 هو العام الذي من المفترض أن يصل فيه الذهب إلى ارتفاعات قوية. وأضافت: "يزدهر الذهب في أوقات عدم اليقين.. وحالة عدم اليقين الآن في ذروتها"، في إشارة إلى أن عام 2024 هو عام الانتخابات، وتوغل أوكرانيا الأخير في روسيا، بجانب تزايد التوترات في الشرق الأوسط.
كما توقعت أن يشهد سعر الذهب ارتفاعًا ليصل إلى 2700 دولار للأوقية بمجرد أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة، والذي قد يحدث في الشهر المقبل.
من جهته، توقع بنك "سيتي غروب" ارتفاع معنويات المستثمرين في الذهب خلال ثلاثة إلى ستة أشهر. وأضاف محللو البنك أن توقعاتهم تشير إلى بلوغ سعر الذهب مستوى 3000 دولار للأوقية بحلول منتصف عام 2025 مع استمرار الفيدرالي في خفض الفائدة، في حين سيصل متوسط سعر الربع الرابع من العام الحالي إلى 2550 دولارًا للأوقية.
وفي مُذكرته الأخيرة، توقع "كومرتس بنك" أن يقوم الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة ثلاث مرات خلال العام الجاري وثلاث مرات أخرى في النصف الأول من العام 2025، مُعربًا عن اعتقاده بأن ذلك سيدفع سعر الذهب إلى الارتفاع ليصل إلى 2600 دولار أميركي للأونصة بحلول منتصف العام القادم.
مصير الذهب
يُعد التوقع بخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة، في ظل البيانات الاقتصادية الأخيرة التي أظهرت تباطؤًا في التضخم وارتفاعًا في معدلات البطالة، أحد أهم الدوافع الرئيسية وراء ارتفاع توقعات السوق لأسعار الذهب، حيث أن التيسير النقدي الذي يتجلى في خفض أسعار الفائدة، يؤدي إلى انخفاض عوائد الأصول البديلة مثل السندات والدولار، مما يزيد من جاذبية الذهب كملاذ آمن.
هذا وتميل أسعار الذهب إلى الارتفاع أثناء الأزمات، لذلك من المتوقع أيضًا أن تتأثر أسعار المعدن الثمين بشكل ملحوظ بالأحداث الجيوسياسية المتسارعة والصراعات المستمرة - تحديدًا الحرب في أوكرانيا وغزة- وبالتالي إلى زيادة الطلب عليه خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. كما أن استمرار البنوك المركزية- لا سيما تلك التي تريد الحد من اعتمادها على الدولار الأميركي- في زيادة حيازتها من الذهب كجزء من استراتيجياتها للتحوط ضد المخاطر المتزايدة في الاقتصاد العالمي، مما سيعزز من هذا الاتجاه التصاعدي في أسعار الذهب.
وفي هذا السياق، كشف مجلس الذهب العالمي أن البنوك المركزية واصلت تعزيز امتلاكها للذهب بشكل ملحوظ، حيث أضافت 1037 طناً من الذهب إلى احتياطاتها خلال عام 2023، وهو الرقم الثاني الأكبر تاريخيًا. وأشار استطلاع المجلس الأخير إلى أن 29 في المئة من البنوك المركزية المشاركة في مسح احتياطيات الذهب لعام 2024 تخطط لزيادة احتياطها من الذهب في الأشهر الـ 12 المقبلة، وهو المستوى الأعلى منذ بدء الاستطلاع في عام 2018.
من المؤكد أن اتجاه الفيدرالي المتوقع نحو تخفيض أسعار الفائدة سيشكل عاملً داعمًا قويًا لارتفاع أسعار الذهب عالمياً. ومع اقتراب موعد هذا التغيير النقدي، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل ستتمكن أسعار الذهب من تجاوز مستوى 3000 دولار خلال العام المقبل، أم أن هذا المستوى سيظل بعيد المنال في ظل التحديات الاقتصادية العالمية؟