كتب عارف العبد*
حين كلف الرئيس الياس سركيس صديقه الدكتور سليم الحص، تشكيل الحكومة الأولى في عهده، كان الاتفاق بينهما أن يتولى الحص الانصراف أكثر من أي أمر آخر إلى الاهتمام بالشأن الاقتصادي، بسبب اختصاصه الجامعي والعملي، على أن يترك الاهتمام بالشأن السياسي لرئيس الجمهورية. فلم يكن الحص يميل إلى العمل في السياسة ولم يكن يرغب في احتراف ممارستها.
لكن بعد مرور نحو شهرين على تشكيل الحكومة، وخلال تناول الغداء في القصر الجمهوري، بحضور فؤاد بطرس وكريم بقرادوني واللواء احمد الحاج وجوني عبدو مدير المخابرات آنذاك، توجه إليه سركيس قائلاً: "لدينا الآن صلاحيات استثنائية فإذا أردت أن تبدأ بالإصلاح من أين تبدأ"؟
أجاب الحص وسط دهشة باقي الحضور: "بالمشاركة".
أجاب سركيس : "يعني كيف"؟
فرد الحص: "يعني بتعزيز صلاحيات رئيس الحكومة"..
فرد سركيس: "لكن الموارنة لن يقبلوا".
فرد الحص: "أنا أجيب عن السؤال كما طرح، فأنت تسأل وأنا أجيب".
وقال سركيس لأحمد الحاج، "أليس كذلك يا أحمد" فرد الأخير:
"طبعا لن يقبلوا بل أكثر من ذلك سيطالبونه بتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية".
فرد الحص: "أنا أجيب على السؤال من أين نبدأ، أما إذا لم يقبلوا فهذا أمر آخر. أنا أعتقد أن الإصلاح يكون بتعزيز المشاركة".
علق الحص في حديث سابق مع كاتب هذه السطور قائلاً: "شعرت أن جوابي يومها ولّد صدمة". لكن النقاش توقف عند هذه النقطة.
صحيح أن الاتفاق بين سركيس والحص كان على تقسيم العمل بينهما بين السياسة والاقتصاد، لكن الحص سرعان ما فاجأ سركيس وباقي الفريق الحاكم آنذاك، حين تصلّب في موقفه إزاء المحافظة على العدالة في قبول استقالة الضباط المسلمين والمسيحيين من الجيش. وهي القضية التي كانت بداية وسبب تشقق وتضرر العلاقة وبداية المواجهة بين الحص وسركيس، الذي ندم على خيار اختياره لرئاسة الحكومة. إذ تحول الحص بسرعة إلى مدافع عنيد وصلب عن مسألة العدالة في التعامل مع المنشقين من الضباط عن الشرعية آنذاك، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. فيما تمسك فريق سركيس بالموقف القائل أن الضباط المسيحيين بما فيهم جماعة الضباط الذين عملوا مع الميليشيات في المناطق المسيحية، كانوا يدافعون خلال الحرب الأهلية عن الشرعية، فيجب الحفاظ عليهم والتعامل معهم بتقدير وحذر ومداراة. أما الآخرين من ضباط جيش لبنان العربي، يعني أحمد الخطيب وجماعته من الضباط، فيجب فصلهم دون غيرهم، لأنهم تمردوا على الشرعية. هذه الرؤية السياسية من قبل سركيس وفريقه أثارت وأزعجت الحص، ودفعته إلى المواجهة مع صديقه والخلاف معه من دون أن يتوقف أمام الأثمان والنتائج. فالمسألة بالنسبة إليه مبدئية لا يمكن المساومة عليها.
هذا الرجل، أي الحص، الذي لم يكن يحب السياسة، ولا يريد العمل بها أو احترافها، سرعان ما تحول رمزاً للمواجهة السياسية العنيفة والحادة في البلاد بين منطقين. منطق يقول بالحفاظ على صلاحيات رئيس الجمهورية وتعزيزها، ومنطق يقول بالمشاركة وتعزيز صلاحيات رئيس الوزراء، لأنه مسؤول أمام مجلس النواب، فيما رئيس الجمهورية غير مسؤول ولا تبعة عليه.
عنيدأ كان سليم الحص، وليس من السهل إقناعه أو الضغط عليه، إذا ما كوّن قناعة تجاه قضية ما.
نتيجة لدوره في الحرب في أكثر من مجال ومكان وقضية، كوّن الحص قناعة بعدم العمل أو مصافحة إيلي حبيقة أو التعامل معه. وأصر على موقفه وتهرّب أكثر من مرة من اللقاء به، إلى أن طلب منه غازي كنعان موعداً لزيارة كانت تقوم بها القيادة السورية إلى لبنان. وقد فوجىء الحص عند استقبال الوفد في منزله في عائشة بكار، بان كنعان اصطحب معه في الوفد حبيقة، فكان اللقاء بينهما أول مرة وعلى مضض.
طلب منه الرئيس حافظ الاسد تعيين اللواء سامي الخطيب مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي فرفض، واعتذر عن قبول الاقتراح، على خلفية دور سامي الخطيب في الأحداث (1975-1976)، وأن تعيينه لن يساعد في صورة بناء قوى الأمن. ثم طلب منه مرة ثانية عبر رئيس الحكومة السورية، فتمسك بموقفه الأول الرافض. وبقي الأمر معلقاً، إلى أن تم تعيين الخطيب وزيراً للداخلية في حكومة رشيد الصلح.
كان سليم أحمد الحص، الذي تربى يتيم الأب فقير الحال مادياً، نسبة للمحيطين به من أبناء جيله، يقلد استقامة والده. كانت والدته تصرف عليه من مردود إيجار عقار ورثوه عن والده الصيدلي أحمد الحص.
لهذه الأسباب، ومن أجل إرضاء والدته والتعويض عن إخوته، الذين لم يذهبوا إلى المدرسة لكي يتيحوا له فرصة التعلم، قد اختار طريق الاجتهاد والمثابرة. وقد نجح في تحقيق التفوق باستمرار، والإعفاء من قسم كبير من الأقساط المدرسية في مراحل متعددة، إضافة إلى عمله في الجامعة الأميركية في طباعة النصوص وتصحيح المسابقات، لتوفير وتجميع بعض المبالغ المالية لتخفيف ضغط المصاريف المطلوبة.
كان يهوى الأدب والشعر وأراد التخصص بهما، فعارضت والدته الأمر، قائلة كلنا في العائلة ناطرينك لكي تتعلم وتتخرج. إذا درست الأدب، أقصى ما يمكن أن تصله أستاذ لغة عربية في مدرسة.. "تعلم شغلة تطعمك خبزاً"، فاختار عندها دراسة الاقتصاد. وخلال دراسته في الجامعة، شارك في مسابقة عن كتابة قصة عن الحياة في الريف، وهو المديني البيروتي، فربح عن رواية كتبها مبلغ 40 ليرة، حيث كتب قصته الرابحة يومها بعنوان: "مطحنة حامد". فأثبت حبه وتعلقه وتفوقه بالكتابة والأدب العربي. لكنه درس الاقتصاد.
عام 1952 حاز الحص على المرتبة الأولى بدلاً لعمله كمحاسب في شركة التابلاين فتقاضى مبلغ 250 ليرة، ليسارع إلى شراء غسالة هوفر هدية لوالدته، من أجل أن توقف الغسيل بيديها. وعند تقاضيه أول راتب اشترى للمنزل ثلاجة بالتقسيط.. ولأنه لم يكن يملك راديو، كان يستمع إلى الموسيقى والأخبار عند الجيران.
حياة سليم الحص غير المترفة، أثرت على سلوكه. فكان عصامياً في تصرفه وتفكيره ونظرته. والتزم الاستقامة في التصرف.
أعجب بـ رياض الصلح وجمال عبد الناصر والقوميين العرب. لكنه لم يدخل صفوف أي حزب سياسي، لأنه لا يريد الالتزام بتوجيهات لم يقتنع بها، ولا يريد أن يتلقى الأوامر من أحد ولا يعرف خلفيتها ومن دون نقاش.
بنى نفسه بنفسه خطوة خطوة وصعد السلم درجة درجة. من العمل في الكويت سنتين ابتنى منزلاً له في ضاحية الدوحة خارج بيروت، وتزوج من زميلته في العمل ليلى فرعون، المارونية من دير القمر.
تميز سليم الحص بميزات كثيرة، أبرزها الشجاعة في قول الرأي والدفاع عنه، إذا ما اقتنع به. تمرد على صديقه سركيس حين اقتنع بأن موقفه هو دفاع عن المصلحة العامة. كره ورفض التفرقة الطائفية والمذهبية، وتمسك بالكفاية والجدارة طريقاً للوصول والترقي.
خلال تجربته في المسؤولية، كون الحص سمعة التمتع بالنزاهة ونظافة الكف والاستقامة، وإيصال الطاقات الجديدة، والتمسك بالرأي الحر، والدفاع عن الديمقراطية، والعمل على التطوير والإصلاح. وبسبب ممارسته السياسية كانت له مواقف مشهودة، وهو القائل إن الأرقام في لبنان وجهة نظر، وإن في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية والمحاسبة.. وإن المسؤول يبقى قوياً حتى يطلب أمراً لنفسه.
يُسجل لسليم الحص التميز في الكثير من المواقف والقضايا، أولها موقفه الشجاع والفريد برفض واستنكار اجتياح صدام حسين للكويت. وهو بسبب هذا الموقف الفريد والمتقدم يومها، لا تزال دولة الكويت حكومة وشعباً تميز لبنان واللبنانيين إلى الآن عرفاناً لجميل الموقف الذي اتخذه الحص، دفاعاً عن مبدأ الحفاظ على استقلال دولة صغيرة أمام تغول وتوحش دولة كبيرة وقوية.
كان سليم الحص يحب الطرفة ويضحك لها، حتى لو كانت مركبة عنه وتستهدفه. يسجل لسليم الحص أنه دافع عن الإصلاح السياسي وعمل له طوال حياته.
شارك مع الرئيس حسين الحسيني وخالد قباني وطلال الحسيني، في وضع مقترحات إصلاحية على الدستور القديم. وهي المقترحات التي اعتمدت في تعديل الدستور في الطائف.
وبعد إقرار الطائف سهر على إخراج وتطبيق هذه الإصلاحات من دون زيادة أو انحراف، باعتباره رئيس أول حكومة بعد الطائف في عهد الرئيس الياس الهراوي.
تمسكه بتطبيق حرفية الاتفاق وروحيته، دفع بالرئيس الهراوي إلى أن يشتكيه إلى الرئيس الأسد قائلاً: "الحص خليه يحل عني، بعد شوي لح يلحقني على الحمام".
بالأمس ودع لبنان الرئيس سليم الحص، وقد أحس كثر أن لبنان فقد رمزاً كبيراً وفريداً في التجربة والعمل السياسي والحكومي وممارسة السلطة.
لكن كثراً أيضاً عتبوا على الرئيس الراحل بسبب محبتهم له وتقديرهم لدوره وتجربته. لأن هذا الرجل العنيد والنظيف والقدوة، سمح في تجربته للرئيس إميل لحود بأن يخدعه خدعة مجلجلة، حفرت عميقاً وأضرت كثيراً. وهو لذلك وبسبب شجاعته النادرة اعترف وسطّر وأخبر كل شيء في كتابه المعنون: "للحقيقة والتاريخ تجارب الحكم ما بين 1998 و2000" .
في الكتاب كشف أن لحود كان يوحي له أن الأسماء المعروضة للتعيين في الدولة كانت من اختياره، وأن من طلب توقيفهم كانوا مرتكبين، ليكتشف بعد أن خرج من الحكم أن الأسماء كان يقترحها ويختارها والد صهره، أي ميشال المر. وأن من اعتُقل وأُدخل إلى السجن أو أُخرج من وظيفته، منهم من كان مظلوماً وليس مرتكباً أو مداناً، بل كان نتيجة وشاية وأغراض وأهداف في نفس لحود ومن كان حوله.
لماذا حدث ما حدث وسمح الرجل النظيف والعنيد والشجاع في وقوع هذا كله؟
*نشر في موقع جريدة المدن