السودان:
الآلية التقنية لقهر انتهاكات
الجيش والدعم السريع

30.09.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي*

يتزايد الاهتمام بالسودان من الدول الفاعلة في الجغرافيا السياسية العالمية بسبب تمتعه بموارد هائلة وموقع جغرافي استراتيجي متميز. ونظراً للتغييرات المعاصرة في موازين القوى العالمية ببروز الصين وروسيا، ومجموعة بريكس، كقوى مؤثرة في الجغرافية السياسية العالمية أصبح من الصعب على أي قوى عظمى التصرف الأحادي في المواقع الاستراتيجية المهمة مثل السودان. وبالتالي لجأت تلك القوى للكيانات الأممية والإقليمية لمساعدتها في بلوغ غاياتها الجيوسياسية. ومن هذا المنطلق لجأت أمريكا في مبادرة جنيف للمساعدة من شركاء متعددي الأطراف مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيقاد، وشركاء قُطْريين مثل مصر والإمارات في سعيها لحماية مصالحها الاستراتيجية في السودان عبر تحقيق الأمن والسلام اللذان عصف بهما الجيش والدعم السريع في حربهما العبثية المستمرة منذ أبريل 2023.
وبسبب تمادي الطرفين في الازدراء بماضي وحاضر ومستقبل السودان أصبح التوصل لوقف إطلاق النار عصياً رغم الجهود الوطنية والإقليمية والدولية. وساهم في استمرار تلك الحرب الفاجرة جملة من العوامل التي تشمل الصراع على السلطة، والخوف من المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية الي ارتكبها الطرفان، وتشبث الجماعات الإسلامية بالعودة للسلطة التي انتزعها الشعب في ثورة ديسمبر، والمؤثرات الخارجية المؤججة للصراع، والديناميكيات العسكرية المترتبة على المكاسب الجغرافية السريعة التي حققها الدعم السريع مما دفع الجيش للتمسك بالانسحاب منها قبل وقف القتال، رغم أن قيادة الجيش قد سهمت جوهرياً في سيطرة الدعم السريع عليها. وذلك فضلاً عن التصدعات والاختراقات التي أضعفت طرفي الاقتتال، خاصة طرف الجيش الذي خضع مجبراً لتشكيل حكومة أمر واقع كاكستوقراطية (kakistocratic) من بقايا الصف الثاني من الإسلاميين الذين توارى صفهم الأول خذياً بعد الويلات التي أذاقوها الشعب السوداني طوال حكمهم البائد الذي دام ثلاثين سنة. كما أضعفت الحرب السافرة طرف الدعم السريع الذي اخترقته مجموعات من النهّابين ومنتهكي الأعراض مما أثار حفيظة قطاع واسع من السودانيين، رغم تبني الدعم السريع لأهداف ثورة ديسمبر في التحول المدني الديمقراطي.
وقد تضافرت هذه العوامل مجتمعة لإفراز واقع عسكري ميداني معقد حيث استند الجيش كلٌ من والدعم السريع على أسبابه الجوفاء لمواصلة الإحتراب، مما جعل التوصل إلى وقف إطلاق النار مستعصياً على الجهود الدبلوماسية القطرية التي قامت بها الولايات المتحدة والسعودية ومصر وسويسرا، والجهود الدبلوماسية متعددة الأطراف من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والإيقاد والاتحاد الأوربي. كما لازم الفشل أيضاً العقوبات الاقتصادية الخجولة وحظر الأسلحة الصوري المفروض على الطرفين من بعض مكونات المجتمع الدولي.
وقد أدى استمرار القتال وتصاعده إلى مضاعفة معاناة المدنيين بدرجة أودت بحياة الآلاف من السودانيين بدرجة تستلزم تدخلاً عزوماً من المجتمع الدولي لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق الواسعة المتضررة من الحرب التي شملت أربع عشرة ولاية وتهدد الأربع ولايات المتبقية بمصير وخيم. ولعل ما يستوجب التدخل الناجع للمجتمع الدولي خطر المجاعة الزاحفة التي طالت أكثر من عشرة ملايين نسمة، أي أكثر من خُمس السودانيين بسبب النقص الخطير في الغذاء المؤدي لسوء التغذية الحاد ثم الوفاة. كما يتطلب الأمر تدخلاً نافذاً لحماية المرافق الصحية وضمان سلامة العاملين، بحيث يُفرض قسراً على الجيش والدعم السريع السماح بمرور آمن للعاملين في مجال الرعاية الصحية والمرضى. وغني عن القول أن كل هذا يستحيل تحقيقه تحت القصف الجوي والمدفعي العشوائي العنيف الذي يمارسه الجيش والدعم السريع بدرجة شكلت جرائم متزايدة ضد الإنسانية.
وتستوجب هذه الفظائع التي يرتكبها الجيش والدعم السريع إجراء تحقيقات محايدة ومستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب حتى لا يفلت الجناة من المحاسبة والعقاب. وفي حين توفر هذه الإجراءات إطاراً لوقف إطلاق النار وانتهاكات حقوق الإنسان، لكنه لمن المهم مراعاة التعقيدات التي تكتنف أسباب الإحتراب بوجود أصحاب مصلحة متعددين وقضايا متجذرة تتطلب جهوداً دؤوبة ونهجاً منسقاً مغايراً للمألوف ومتعدد الأوجه (multifaceted).

وكما هو معلوم فإن ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي تبيحان تدخل المنظمتين عسكرياً في دولهما الأعضاء في حالة تهديد السلم وارتكاب جرائم حرب وفظائع ضد الإنسانية كالتي ظل يمارسها الجيش والدعم السريع منذ اندلاع الحرب الكارثية في أبريل 2023. ونظراً لاتساع الجرائم ضد الإنسانية التي يمارسها طرفا الاقتتال في السودان العضو في المنظمتين، فإن التنسيق بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي صار حتميّاً لاستنباط الآلية القوية التي تمكن من وقف الحرب دون خشية مواجهة مباشرة بين دول الفيتو الخمس المهيمنة على الجغرافيا السياسية العالمية. وغني عن القول أن صدور قرار من مجلس الأمن باستخدام البند السابع في السودان ظل رهيناً بالفيتو الروسي أو الصيني المحتمل. وعلى الرغم من أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة "الاتحاد من أجل السلام - Uniting for Peace " رقم 377A(V) الصادر عام 1950 يتيح للجمعية العامة القدرة على التدخل في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين عندما يعجز مجلس الأمن عن اتخاذ إجراء بسبب الفيتو، إلا أن تنفيذ هذا القرار العتيق تكتنفه تحديات توفر الإرادة السياسية للدول الأعضاء وقدرتها على التعاون لتنفيذ قرارات الجمعية العامة في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين. وذلك فضلاً عن أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، على عكس قرارات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع. كما أن الجمعية العامة لا تستطيع فرض التدخل العسكري القسري الذي يظل حكراً على مجلس الأمن. وعليه فقد تضاءلت فاعلية قرار "الاتحاد من أجل السلام" لفرض وقف إطلاق النار في السودان، حيث أدركت الدول الخمس الدائمة العضوية أن هذا القرار ضار بمصالحها.
ومن ثم فإن استخدام القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي يمثل الخيار الوازن لتوفير الآلية القوية الضرورية لفرض وقف إطلاق النار في السودان وتنفيذ إعلان منبر جدة الذي ظل مغلولاً لغياب الآلية الفاعلة التي تُرغِم الجيش والدعم السريع على تنفيذه. ويجدر بالذكر أنه وفقاً للمادة 4 (ح) من القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي فقد تدخلت قواته العسكرية الإفريقية في بوروندي ويوغندا وموزمبيق والسودان لحفظ السلام في إطار حماية الاتحاد الإفريقي لدوله الأعضاء من جرائم الحرب والفظائع ضد الإنسانية. أما بالنسبة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقد أصدر قرارات بالتدخل الذي حقق نجاحاً كبيراً تحت البند السابع في كمبوديا، والسلفادور، وغواتيمالا، وموزمبيق، وناميبيا، وطاجيكستان. كما ساهمت قوات الأمم المتحدة في تحقيق نتائج إيجابية في فرض السلام في كل من سيراليون، وبوروندي، وكوت ديفوار، وتيمور الشرقية، وليبيريا، وهايتي، وكوسوفو، والسودان.
لقد أكد فشل منبر جدة والمبادرات الأخرى في وقف مستدام لإطلاق النار وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في السودان أن كبح جماح المواجهات الدامية بين الجيش والدعم السريع يحتاج لآلية هجين (hybrid) تحتوي على مزيج من التقنيات الحديثة للارتقاء بقدرات المراقبة، ومراقبين عسكريين ومدنيين لبناء الثقة وتفسير البيانات، بحيث تكمل التكنولوجيا المراقبة البشرية ولا تستبدلها. وحتى تتمكن هذه الآلية الهجين من النجاح لا بد لها من تفويضات واضحة واتفاقيات مفصلة حول ما يجب مراقبته، وتوفير مزيج من التقنيات مثل الطائرات بدون طيار (Drone) والكاميرات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الصوتية (acoustic) لرصد مصدر الخروقات، وأنظمة إدارة المعلومات لجمع البيانات وتحليلها وتفسيرها، وهياكل لإدارة الانتهاكات ومنع التصعيد، واستراتيجيات للاتصال الداخلي والخارجي، وعناصر مستقلة من المدنيين والمجتمع المدني للمشاركة في الرصد لضمان الملكية المحلية لآلية المراقبة.
أما الجانب البشري من الآلية الهجين فيشمل مراقبين إقليميين ودوليين محايدين لعمليات وقف إطلاق النار والجرائم ضد الإنسانية يعملون على الأرض يراقبون ويقدمون التقارير ويساهمون في جهود خفض التصعيد وتسهيل مشاركة المدنيين والمجتمع المدني المحلي في عملية وقف إطلاق النار ورصد الفظائع ضد المدنيين. ويظل دور هؤلاء المراقبين حاسماً حتى في وجود دعم التكنولوجيا الحديثة في أنشطة المراقبة. ويشمل دور المراقبين التعامل الاستباقي (proactive) مع المحفزات المحتملة للخروقات أو سوء الفهم بين الجيش والدعم السريع، وبناء الثقة من خلال الاتصال المباشر مع طرفي الاقتتال والمدنيين المتضررين، وإجراء الدوريات والاستقصائية بالاشتراك مع الأنظمة التكنولوجية.
ونسبة للتحديات التي تكتنف تدخل عناصر بشرية أجنبية في السودان عبر مجلس الأمن فإن "القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا-إيساف" (Eastern Africa Standby Force-EASF) تمثل الخيار الأفضل للمشاركة في آلية مراقبة وقف إطلاق النار في السودان. ويجدر بالذكر أن بروتوكولات إنشاء "إيساف" قد نصت على التعاون مع الأمم المتحدة، ووكالاتها بما فيها مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الصلة، وكذلك مع السلطات الوطنية والمنظمات غير الحكومية، عند الحاجة. وعند نشر قوة "إيساف" في السودان يتولى الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة مهمة السيطرة العملياتية عليها. ومن الضروري أن تعمل "إيساف" بالتنسيق مع مختلف الشركاء القطريين ومتعددي الأطراف الذين يقدمون لها الدعم المالي واللوجستي والفني اللازم لإنجاز مهامها ومراقبة استقلالها التام من أي مؤثرات من طرفي الاقتتال. ويشمل الشركاء القطريين الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وألمانيا وبريطانيا وهولندا والدنمارك وفنلندا والنرويج والسويد. كما ينتظر أن تتلقى "إيساف" مساعدات من مصادر متعددة الأطراف تشمل الأمم المتحدة وبرامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوربي.
وفي ضوء الاستخدام الأمثل للتكنولوجيا في آلية المراقبة يمكن حصر قوة "إيساف" في حدود 10000 فرد بالاستفادة من الأقمار الصناعية في الاستطلاع والإنذار المبكر والاتصالات. إذ توفر أنظمة الاستطلاع الفضائي المعلومات اللازمة عن تمركز قوات الجيش والدعم السريع، وترصد بدقة الطرف الذي ينتهك وقف إطلاق النار أو يرتكب جرائم ضد الإنسانية في حينه باتصال أنظمة الاستطلاع الفضائي بأنظمة الاستخبارات والرصد والاستطلاع لاتخاذ ما يلزم تجاه الطرف المنتهك بالسرعة اللازمة.
ويجدر بالذكر أن الأقمار الصناعية تدور خارج نطاق مجال أسلحة الدفاع المحدودة لطرفي القتال، وتمر فوق مواقع المعارك دون تواجد فعلي على الأرض السودانية، وبالتالي تسقط الادعاءات الجوفاء بالغزو الأجنبي للأراضي السودانية التي تعلل بها المعارضون لأي دور إيجابي للمجتمع الدولي لوقف الحرب العبثية في السودان. كما أن هذه الأقمار الصناعية بإمكانها كشف الطرف المنتهك لوقف إطلاق النار قبل تحركه نظراً لقدرتها على تجريده من عنصر المفاجأة لصعوبة إخفائه لعملياته التعبوية أو التكتيكية. وفوق ذلك يمكن لمنصات تطبيقات الاستشعار عن بُعد تحديد المواقع الخفية للجيش والدعم السريع في منازل المواطنين والأعيان المدنية وتحركات قواتهما وطرق إمداداتها مما يسمح أيضاً بالتحقق بشرياً من تطبيق مخرجات منبر جدة. كما يمكن لهذه التطبيقات التقنية حماية حقوق الإنسان السوداني بتتبع الانتهاكات البشرية خلال الإحتراب، ومساعدة الفرق الإنسانية الأرضية في مهامها الرقابية، ودعم عمليات إغاثة اللاجئين، وتقديم أدلة في المحاكم المحلية والدولية لمعاقبة مرتكبي الفظائع ضد المدنيين. ومن ناحية أخرى فإن استخدام أنظمة الاستطلاع الفضائي في السودان يوفر أيضاً المراقبة الدقيقة لسلوك قوات "إيساف" نفسها ويضمن التزامها المهني دون أي تأثير بالإغراء أو الإكراه من الجيش والدعم السريع.
وبالنسبة لإمكانية نجاح الآلية التنكنوبشرية لوضع حد للحرب المستعرة في السودان فإن ذلك مرهون بعدة عوامل، تشمل فيما تشمل، عدم استخدام القوة إلا في حالات الدفاع عن النفس، وكسب ثقة المواطن السوداني عبر استراتيجية تواصل مبسطة (Communication Strategy) تقنعه بأن هذه الآلية لوقف إطلاق النار ترمي لحماية المواطن من فظاعات الجيش والدعم السريع وجرائمهما ضد الإنسانية، وتعزيز الملكية القومية والمحلية لعملية السلام في السودان بإشراك قوى المجتمع المدني المستقلة بقيادة مراكز التميُّز ومؤسسات الفكر الوطنية، والتزام سلطة الأمر الواقع بعدم عرقلة الآلية ومنح مكوناتها البشرية والتقنية حرية التمركز والتحرك. ويساعد على تحقيق ذلك المشاركة الداعمة من البلدان المجاورة (مثل مصر وتشاد وإثيوبيا وإفريقيا الوسطى، وجنوب السودان) والدول الفاعلة الإقليمية (مثل السعودية والإمارات والبحرين وقطر)، والتنسيق الإيجابي مع الكيانات الشعبية مثل لجان المقاومة، والتزام أقصى درجات الحساسية تجاه السكان المحليين والحفاظ على أعلى معايير المهنية والسلوك الذي يراعي الثقافات والأعراف السودانية التي عبس بها الجيش والدعم السريع.
وحتى لا يفلت مرتكبو جرائم الحرب من الجيش والدعم السريع من العدالة الناجزة يجب القيام بإجراءات مُرَكَّبة ومتماسكة تتضمن عدة خطوات وآليات قانونية دولية تنطوي على تصنيف تلك الجرائم إلى ثلاث فئات رئيسية تشمل الجرائم ضد السلام، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. ويلي ذلك جمع الأدلة بحيث يلعب الصحفيون والمحققون دوراً مهماً في الكشف عن هوية مجرمي الحرب وجمع الأدلة ضدهم. ويتطلب ذلك اتباع استراتيجية فاعلة لجمع المعلومات تشمل رصد منصات التواصل الاجتماعي، والتحقق من صحة مقاطع الفيديو والصور المنشورة عليها، وإجراء مقابلات مع الضحايا والشهود والناجين، وجمع الأدلة المادية من مسارح الجريمة، وتحديد شهود العيان وإجراء مقابلات معهم، والتنسيق مع السلطات الوطنية والدولية، والتعاون مع المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة، والتشاور مع الهيئات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court). ومن خلال هذه الاستراتيجية العدلية يستطيع المحققون جمع أدلة شاملة وموثوقة لدعم ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب من الجيش والدعم السريع. ومن المهم التأكيد على أن هذه العملية معقدة وتتطلب بناء القدرات وتوفير موارد متخصصة حتى لا يعاقب البريء بجريرة المجرم.

*المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري، الخرطوم