القطاع الخاص المصري
في (قفص) الدولة

03.10.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

القاهرة: محمود عبد العظيم

يجمع خبراء ودوائر أعمال محلية ومؤسسات مالية عالمية على أن أحد أبرز حلول المعضلة الاقتصادية في مصر فى هذه المرحلة يتمثل في ضرورة إنعاش القطاع الخاص بكافة أطيافه وتمكينه من إستعادة "حصة ودور" طالما تمتع بهما لسنوات طوال واثمرت معدلات نمو وتشغيل واستهلاك جيدة .

ويأتى هذا الإجماع على خلفية توصيف جذر المعضلة الاقتصادية المصرية بانه نقص وتراجع في القدرات الإنتاجية للاقتصاد الكلي وليس طلباً زائداً على السلع والخدمات حسب تصورات غير واقعية لبعض الرؤى الحكومية ومن ثم بات من الضروري تعظيم الدور الانتاجي للقطاع الخاص وإتاحة وتسهيل أدوات هذا الدور حتى يمكن إستعادة التوازن المفقود في معادلة العرض والطلب ولذلك ياتي الإجماع على أنه لامفر من عودة قوية للقطاع الخاص مثلما كان الحال قبل اندلاع ثورة يناير في العام ٢٠١١رغم كل " التحفظات " التي كانت تبديها رؤى "راديكالية مصرية" عن تزاوج السلطة والثروة في ذلك الحين.

واقع محاصر وتحديات كبيرة

بداية تشير الأرقام شبة الرسمية إلى أن القطاع الخاص المصري وعلى مدار أكثر من أربعة عقود كان هو المشغل الأول والمنتج لفرص العمل والتوظيف وأيضا للسلع والخدمات حيث يعمل في هذا القطاع- بشقيه المنظم وغير المنظم- أكثر من 80 في المئة من القوة العاملة المصرية .

كما يتمتع العاملين في شركات ومؤسسات القطاع الخاص بمعدلات أجور أعلى في المتوسط من الأجور التى يحصل عليها العاملين في القطاع الحكومي إلى جانب حصولهم على خدمات علاجية متميزة مقارنة بتلك الخدمات التى يحصل عليها نظراؤهم في الشركات العامة.

ورغم إستمرار هذه النسبة حتى الآن إلا أن الواقع الفعلىي للقطاع الخاص يشير إلى ثمة حصار وتحديات كبيرة يواجهها هذا القطاع على أكثر من مستوى. فعلى صعيد الحصول على التمويل تراجعت حصة القطاع الخاص من القروض المصرفية إلى ما دون 25% من إجمالى الائتمان الممنوح وذلك لأسباب متنوعة تشمل إرتفاع تكلفة التمويل وعدم اتاحته من الأساس وتفضيل الجهاز المصرفي توظيف السيولة لديه في أدوات الدين الحكومية مرتفعة العائد ومنخفضة المخاطر إلى جانب تباطؤ توسعات الشركات الخاصة بسبب تراجع المبيعات على وقع التضخم وتزايد معدلات الفقر وانحسار القوة الشرائية للمستهلكين .

وعلى صعيد بيئة الأعمال لاتزال البيروقراطية نافذة في مجمل إجراءات دخول السوق أو حتى الخروج منه - رغم الرخصة الذهبية التي بدأت الحكومة تمنحها للكيانات الإستثمارية الكبرى لاسيما الأجنبية - إلى جانب المشكلات المتعلقة بالضرائب وارتفاع رسوم الخدمات الحكومية بالإضافة إلي الشكوى المستمرة من جانب القطاع الخاص من المنافسة غير العادلة على خلفية تزايد الدور الاقتصادي للمؤسسات العامة بكافة تنويعاتها وعدم قدرة القطاع غير المنظم على الانخراط في السوق الرسمية حتى لو أراد ذلك لارتفاع تكلفة عملية الانخراط هذه وتعقيداتها الإدارية والقانونية.

وعلى صعيد عمليات التشغيل اليومية تعانى شركات القطاع الخاص من مشكلات عديدة تتعلق بتوافر المواد الخام وعدم انتظام سلاسل الإمداد ونقص الأراضب المرفقة ومشكلات أخرى في الاستيراد أو الحصول على دعم الصادرات وتذبذب سعر الصرف وهى كلها عوامل مرتبطة بحالة الإضطراب الراهنة في المشهد الاقتصادي العام.

واسفرت هذه العوامل مجتمعة عن تراجع حصة القطاع الخاص المصري على مدار السنوات الأخيرة من نحو 70 % فى المتوسط من مجمل النشاط الاقتصادي إلى ما دون 30 % حالياً وهي عملية انكماش غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد المصري لم يصل إليها من قبل باستثناء عصر التأميمات الكبرى مطلع ستينات القرن الماضي.

ملاذات خليجية آمنة

أمام هذه الضغوط لم يجد القطاع الخاص المصري مفراً من البحث عن ملاذات خارجية آمنة لاسيما في دول الخليج العربي وفي مقدمتها سوقي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وذلك بهدف مواصلة اعماله وإيجاد متنفس خارجي لتوسعاته وقدراته الإنتاجية والحصول على موارد دولارية تؤمن له الاستمرار من ناحية وتنويع المخاطر من ناحية ثانية ومن ثم بدأت العديد من الشركات الخاصة الكبرى في إبرام شراكات استثمارية ناجحة في هذه الأسواق سواء مع الحكومات أو الكيانات الإستثمارية الكبرى بها وكانت شركات التطوير العقاري وبعض الشركات الصناعية ذات الإنتاج المتطور- مجموعتي طلعت مصطفى والسويدي على سبيل المثال- في مقدمة هذه الكيانات التي طرقت أبواب السعودية والإمارات مبكراً واحرزت فيها نجاحاً ملموساً الأمر الذي يبرهن مجدداً على قدرة القطاع الخاص المصري على قيادة النمو في المرحلة المقبلة بعدما اكتسب المزيد من الخبرات والملاءة المالية العالية وشركاء من ذوي الوزن الثقيل في السوقين السعودي والاماراتي.

لذلك كله كان من الطبيعي أن يضع صندوق النقد الدولي على رأس مفاوضاته مع الحكومة المصرية- في إتفاق التمويل الأخير- قضية إفساح المجال أمام القطاع الخاص وتمكينه وتخفيف "البصمة الاقتصادية للدولة" في الأسواق وإدراج هذا البند ضمن عمليات المراجعة الدورية التى يجريها الصندوق كشروط مسبقة لصرف شرائح التمويل المتفق عليها.

توجه جديد

في المقابل اعلنت حكومة الدكتور مصطفى مدبولي- خاصة في نسختها الثانية- وعلى مدار الشهور الأخيرة عن ثمة توجه جديد بدعم القطاع الخاص سوف يجري تبنيه في الفترة القادمة اقتناعاً منها بأن الوقت قد حان لعودة قوية لهذا القطاع ومساعدته على إستعادة عافيته عبر العديد من الإجراءات التي شملت حزمة من التيسيرات المالية والضريبية جرى تفعيلها مؤخراً ومنها إسقاط معظم غرامات التأخير على الضرائب المستحقة عن السنوات الماضية بحيث لا تزيد قيمة الغرامة عن قيمة الضريبة بأي حال من الأحوال وتعهد الحكومة بتوفير أي مساحات أراضي صناعية مطلوبة لتوسعات الشركات وبصورة فورية وعبر آلية التخصيص المباشر وإعطاء أولوية لمكونات الإنتاج في تدبير الدولار اللازم لعمليات الاستيراد وتحديد ضريبة قطعية ثابتة لأي مشروع لا تزيد مبيعاته السنوية عن 15 مليون جنيه وتفعيل مبادرات تمويل مدعومة لبعض القطاعات فى مقدمتها قطاعي السياحة والصناعات التحويلية بمبلغ يقترب من 40 مليار جنيه إلى جانب التمويل الموجه للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وهو أصلاً تمويل مدعوم في معظمه حيث يأتي من مؤسسات أوروبية ودولية أخرى.

كما أن وثيقة ملكية الدولة التي صدق عليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخراً تفسح الطريق بدورها لعملية تخارج حكومية منظمة وتدريجية من بعض القطاعات الإنتاجية على المديين المتوسط والطويل وهي عملية من شأنها إتاحة المزيد من الفرص الاستثمارية أمام القطاع الخاص المحلي والاجنبي لاسيما في مجالات الطاقة والاتصالات وإدارة الموانئ إلى جانب قطاعي التشييد والبناء.

وإذا كانت هذه الإجراءات تعكس- في حدها الأدنى- نوايا حسنة من جانب حكومة مدبولي لدعم القطاع الخاص فإن تنفيذها على الأرض يصبح مرهوناً بتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي واتاحة النقد الأجنبي والتمويل بالعملة المحلية وتراجع التضخم لتمكين المواطنين من تعزيز قدراتهم الشرائية ومن ثم تصريف المنتجات وهي كلها عوامل يرى الخبراء أن بوادرها لن يشهدها الربع الأخير من العام الجاري بل ربما تطل على المشهد تدريجياً اعتباراً من العام القادم مع بدء سياسة التيسير النقدي وخفض أسعار الفائدة وهي السياسة التي تنتظرها السوق المصرية بترقب شديد حيث يصبح من الممكن وقتها الحديث عن خفض تكاليف الإنتاج ومن ثم تراجع التضخم وتسريع دوران عجلة الاقتصاد وبالتالي بدء تفعيل دور القطاع الخاص.

لكن الأكثر أهمية من تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي هو ما يعتبره البعض ضرورة توافر "الإرادة السياسية" واقتناع دوائر صنع القرار الاقتصادي في البلاد بأهمية هذا التفعيل والاستدعاء لدور متعاظم للقطاع الخاص لانة بدون توافر مثل هذه الإرادة سوف تظل كل المشكلات التي يعانى منها القطاع الخاص تراوح مكانها فاذا ما تم حل مشكلة ظهرت مشكلة أخرى لاسيما بعد أن بات واضحاً أن ثمة جماعات مصالح استفادت بقوة من النشاط الاقتصادي المتنامي للدولة في السنوات الماضية عبر الحصول على صفقات وعقود مليارية وهذه الجماعات ليس من مصلحتها إستدعاء التنافسية والشفافية للملعب الاقتصادي ومن ثم من مصلحتها إستمرار الأوضاع الراهنة لمراكمة المزيد من الثروات وبالتالي لن تتردد في فعل أي شيء من شأنهة عرقلة الاتجاه الحكومي لتمكين القطاع الخاص مجدداً لأنه ليس بالنوايا الحسنة وحدها يحدث التغيير.