يعاني الاقتصاد الفلسطيني من تحديات جمة نتيجة الاحتلال المتواصل والقيود الإسرائيلية المفروضة عليه التي تقوّض الإمكانات الاقتصادية، وتحدّ من فرص الاستثمار والتجارة، وتقطّع أواصر الأراضي الفلسطينية. وقد أدّت هذه القيود إلى حدوث تشوهات هيكلية في بنية الاقتصاد، وضعف ملحوظ في القطاعات الإنتاجية، وتفاقم هذا الضعف بسبب الاعتماد المفرط على إسرائيل تحديداً فيما يتعلق بشؤون السياسة المالية ومصادر الدخل. اليوم، وبعد مرور عام على عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، وضعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الاقتصاد الفلسطيني في حالة خراب وخلفت وراءها دماراً اقتصادياً في مختلف الأراضي المحتلة نتيجة لتزايد الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن التضخم المرتفع، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانهيار المداخيل، والضغوط المالية التي كبّلت الحكومة الفلسطينية وشلّت قدرتها على العمل.
جاء ذلك في أحدث تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" والذي تناول حالة الاقتصاد الفلسطيني، حيث أشارت المنظمة إلى أن حجم الدمار الاقتصادي المذهل والانحدار غير المسبوق في النشاط الاقتصادي، تجاوز بكثير تأثير جميع الحروب السابقة على القطاع في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021.
الاقتصاد.. يتهاوى
وفقاً لتقرير"الأونكتاد"، فقد أدّت الحرب إلى خسائر غير مسبوقة في الأرواح وموجات نزوح وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية. وعليه، شهد الناتج المحلي الإجمالي لغزة تراجعاً بنسبة 81 في المئة في الربع الأخير من عام 2023، مما تسبّب في انكماش اقتصادي بلغ 22 في المئة على مدار العام. وبحلول منتصف عام 2024، تقلّص الاقتصاد إلى أقل من سدس حجمه مقارنة بعام 2022.
التقرير أكّد أن 82 في المئة من الشركات في غزة، والتي تشكل محركاً رئيسياً للاقتصاد، قد تعرضت للتدمير، بينما تتواصل الأضرار التي تلحق بالقاعدة الإنتاجية وسط تواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية.
وبالتوازي مع ذلك، تمر الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، بتدهور اقتصادي سريع ومثير للقلق، جراء التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي وهدم المباني الفلسطينية وزيادة عنف المستوطنين. إذ توقف 80 في المئة من الشركات في البلدة القديمة في القدس الشرقية عن العمل بشكل جزئي أو كلي.
ولقد انعكس التفاؤل الأولي بنمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4 في المئة في الضفة الغربية في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023 بشكل جذري، حيث شهد الربع الرابع انكماشًا حادًا وغير مسبوق بنسبة 19 في المئة، انخفاض مما أسفر عن انخفاض إجمالي الناتج المحلي السنوي بنسبة 1.9 في المئة.
من جانبه، أصدر البنك الدولي تحذيراً عاجلاً من كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، مشيراً إلى أن الأراضي الفلسطينية على حافة الانهيار الاقتصادي الحر بعد مرور 11 شهراً على الصراع في الشرق الأوسط. وكشفت أحدث البيانات عن تراجع في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35 في المئة خلال الربع الأول من عام 2024 للأراضي الفلسطينية بشكل عام، في أكبر انكماش اقتصادي تشهده البلاد، وذلك وفقاً لتقريره المحدث والذي جاء تحت عنوان "انعكاس الصراع في الشرق الأوسط على الاقتصاد الفلسطيني".
وأوضح البنك الدولي أن الصراع وضع الاقتصاد على شفا الهاوية، مُشيراً إلى انكماش هائل بنسبة 86 في المئة خلال الربع الأول من عام 2024، هو الأسوأ من نوعه، حيث أدى إلى توقف شبه كامل للأنشطة الاقتصادية ودخول القطاع في حالة ركود عميق. ونتيجة لذلك، انخفضت مساهمة غزة في الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير، لتصل إلى أقل من 55 في المئة، مقارنة بمتوسط 17 في المئة في السنوات السابقة. وفي الوقت نفسه، شهد الاقتصاد في الضفة الغربية تقلصاً بنسبة 25 في المئة خلال الربع الأول من عام 2024، متأثراً بشكل كبير بانكماش قطاعات التجارة والخدمات والبناء والتصنيع.
هذا فضلاً عن الموجات التضخمية التي ضربت الاقتصاد، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك السنوي بنسبة 250 في المئة، بسبب الانقطاعات في سلاسل التوريد الناجمة عن الصراع الدائر.
مأساة البطالة والفقر
البنك كشف في تقريره أن الصراع خلّف أيضاً كارثة إنسانية هائلة، كما أدّت الأعمال العدائية والإغلاقات المستمرة إلى منع دخول الإمدادات الأساسية إلى القطاع، مما تسبّب في انعدام الأمن الغذائي، ونقص حاد في المياه والوقود والمعدات الطبية، وانهيار الخدمات الأساسية. وقد تفاقمت الأزمة بسبب نزوح ما يقرب من 1.9 مليون شخص، مما أدى إلى امتلاء الملاجئ وتدهور الأوضاع الصحية.
وتتسارع وتيرة الأزمة الإنسانية يوماً بعد يوم، حيث تزداد التقارير عن انتشار المجاعة وسوء التغذية والأمراض، في ظل عرقلة ممنهجة ومتعمّدة لوصول المساعدات الإنسانية.
وفي ظل الركود الاقتصادي الذي يشهده القطاع وضعف الطلب في الضفة الغربية، ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات قياسية. ورغم قدرة القطاع الخاص في الضفة على الصمود من خلال تقليل عدد ساعات العمل بدلاً من تسريح العمال، إلا أن 87.2 في المئة من العمال في الضفة الغربية شهدوا انخفاضًا في دخول أسرهم منذ بداية الصراع جراء فقدان الوظائف وتقصير ساعات العمل.
وبحسب أحدث الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ومنظمة العمل الدولية، فإن معدل البطالة في الأراضي الفلسطينية قد تجاوز 50 في المئة في حزيران/ يونيو 2024، وهو أعلى معدل يتم تسجيله على الإطلاق. كما تسبب فقدان الوظائف في إسرائيل والمستوطنات، إضافة إلى فقدان الوظائف في الاقتصاد المحلي، بارتفاع معدل البطالة في الضفة الغربية إلى 35 في المئة.
وقد أدى شلل الحركة التجارية في غزة إلى إبقاء معظم الأسر دون أي مصدر للدخل، في الوقت الذي انتشرت التجارة غير المشروعة في السوق السوداء، وتضاعفت فيه أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل ملحوظ إلى نحو 250 في المئة في آب /أغسطس 2024، مقارنة بالشهر عينه في العام 2023.
واستناداً إلى بيانات "الأونكتاد"، تآكلت المرونة الاقتصادية للأسر الفلسطينية بشكل كبير نتيجة للخسائر الفادحة في الوظائف والتدمير الواسع لسوق العمل، حيث فقد قطاع غزة نحو 201 ألف وظيفة، أي ما يعادل ثلثي الوظائف التي كانت متاحة قبل الحرب، الأمر الذي فاقم من حدة المعاناة الإنسانية ودفع معظم سكان القطاع تقريباً إلى الفقر.
أما في الضفة الغربية، فقد الفلسطينيون نحو 306 آلاف وظيفة، ليرتفع معدل البطالة من 12.9 في المئة إلى 32 في المئة، مُتسبباً في خسائر يومية قدرها 25.5 مليون دولار في دخل العمل. هذا فضلاً عن تعطّل الأنشطة التجارية وتشديد الإجراءات الاحترازية على حركة الأشخاص والبضائع.
الحرب تضرب الزراعة
الأزمة الاقتصادية الخانقة لم توفّر القطاع الزراعي، الذي كان يوفر قبل العام 2020 نحو 13 في المئة من فرص العمل الرسمية ويشكل مصدر دخل رئيسي لأكثر من 90 في المئة من السكان من خلال العمل غير الرسمي. وبحسب أحدث بيانات الاستشعار عن بعد الصادرة عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية "يونوسات"، تدهورت صحة المحاصيل وكثافتها بنسبة 63 في المئة من إجمالي الأراضي الزراعية الدائمة في غزة. في حين تأثرت محافظات خان يونس ومدينة غزة وشمال غزة بشكل خاص، حيث تضرر ما يقرب من 70 في المئة من أراضيها الزراعية.
وقد أسفر هذا التدهور عن زيادة حادة في معدلات انعدام الأمن الغذائي في غزة، حيث بات ما يقرب من مليوني شخص على شفير المجاعة، فيما يعاني جميع السكان تقريبًا من نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية.
ووفقًا لأحدث تحليل للتصنيف المرحلي المتكامل، يعاني 15 في المئة من السكان، أي نحو 350 ألف نسمة من ظروف قاسية شبيهة بالمجاعة، حيث يواجهون نقصًا شبه كامل في الغذاء. كما يعيش ثلث السكان في حالة طوارئ غذائية، ويعانون من سوء التغذية ومعدلات وفيات مرتفعة. وتزداد هذه الظروف حدة بشكل خاص في المناطق الشمالية، ومدينة غزة، ومحافظات دير البلح وخان يونس ورفح، مع توقع استمرار خطر المجاعة حتى أيلول/ سبتمبر.
هذا ويواجه ما يقرب من 90 في المئة من الأطفال دون سن الثانية و95 في المئة من النساء الحوامل والمرضعات في غزة خطرًا كبيرًا بسبب الفقر الغذائي الحاد الذي يعانونه، حيث يستهلكون كمية محدودة للغاية من الغذاء لا تتجاوز مجموعتين غذائيتين. كما أن 95 في المئة من الأسر أُجبرت على تقليل حجم وعدد وجبات الطعام، مما يفاقم سوء التغذية والأمراض المرتبطة بها.
انهيار التعليم والصحة
وتزامناً مع هذه الأحداث، لم يسلم النظام التعليمي من تداعيات الأزمة في غزة، حيث حرم ما يقرب من 625 ألف طفل من التعليم منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023. وأشارت التقديرات إلى تضرر أو تدمير حوالي 95 في المئة من المرافق التعليمية على جميع المستويات. كما أدى الصراع إلى تعطيل الخدمات التعليمية في الضفة الغربية بشكل خطير، حيث اضطرت المدارس العامة إلى تقليص التعليم الحضوري بسبب الأزمة المالية والمخاوف الأمنية.
بدوره، شهد النظام الصحي تدهوراً كبيراً في القطاع حيث تسبب تدمير البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك إمدادات المياه والطاقة الشمسية، وانقطاع الكهرباء والوقود، في توقف 80 من المئة من مراكز الرعاية الأولية عن العمل. ونتيجة لذلك، اضطر النظام الصحي المنهار إلى الاعتماد على 3 مستشفيات ميدانية فقط، فيما تعمل 17 مستشفى من أصل 36 بشكل جزئي، وهو ما يمثل 53 في المائة من إجمالي أسرة المرضى الداخليين ووحدات العناية المركزة وأسرّة الأمومة قبل الأزمة. ويتوفر حالياً نحو 1500 سرير في المستشفيات بمختلف أنحاء القطاع ، مقارنة بـ 3500 سرير كانت متاحة قبل الصراع. ويقدر متوسط إشغال الأسرة بنحو 300 في المئة.
وفي ضوء هذه النتائج، يعاني 100 في المئة تقريبًا من سكان غزة من الفقر، في حين تعاني الأسر بالضفة الغربية أيضاً من خسائر كبيرة في الرفاهة وتتوقع التقديرات استمرار تدهور الأوضاع المعيشية للأسر في المستقبل. وأشارت التقديرات إلى أن الانكماش الاقتصادي الحاد الذي ضرب الضفة الغربية منذ أواخر عام 2023 قد أدى إلى تضاعف معدل الفقر قصير الأجل تقريبًا، مرتفعًا من 12 إلى 28 في المئة بحلول منتصف عام.
ضغوط مالية خانقة
تتراكم التحديات على القطاع المالي الفلسطيني، الذي كان يعتبر سابقاً قطاعاً مستقراً. ووفقًا لتقرير "الأونكتاد"، فإن التدهور الحاد في الأوضاع المالية للحكومة الفلسطينية، والذي يعزى إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي، وخصومات إسرائيلية للإيرادات، والانخفاض الحاد في المساعدات الدولية من 2 مليار دولار إلى أدنى مستوياته عند 358 مليون دولار فقط في عام 2023، قد أدى إلى تفاقم الأزمة.
وتسبب التصعيد الإسرائيلي الذي بدأ في تشرين الأول/أكتوبر 2023 ، في تصاعد عمليات خصم الإيرادات (المقاصة) وحجبها، وفي خسارة اقتصادية فادحة قدرت بـ 1.4 مليار دولار، أي ما يعادل 8.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2023. وقد أدت هذه التحديات المالية إلى تعطيل قدرة الحكومة على دفع رواتب الموظفين بانتظام، وتسديد الديون المستحقة، والحفاظ على مستوى الخدمات العامة الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم. كما أدّى النقص الحاد في السيولة النقدية في غزة إلى عجز السكان عن الحصول على المساعدات الإنسانية وأموالهم المودعة، سواء من خلال أجهزة الصراف الآلي أو التحويلات المالية.
وعلى الرغم من التحديات المالية، هناك بعض المؤشرات الإيجابية، حيث أعلن كل من البنك الدولي والمفوضية الأوروبية في الفترة ما بين تموز/يوليو وآب/أغسطس 2024 عن نيتهما زيادة مساهماتهما في المنح المقدمة للسلطة الفلسطينية كجزء من خطة إصلاح شاملة، مما يمثل بارقة أمل في تحسين الوضع المالي.
كما شدد البنك الدولي على أهمية وقف الأعمال العدائية وإعادة تأهيل الخدمات الأساسية لتخفيف حدة المعاناة الإنسانية وتحفيز التعافي الاجتماعي والاقتصادي والحد من آثار الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر. وفي ذات الوقت، يتطلب الوضع الحالي توفير تمويل دولي عاجل لضمان استمرارية الخدمات الأساسية، ولتسهيل إعادة الإعمار على المدى الطويل. وأضاف أنّ تحسين التجارة وتعزيز دور القطاع الخاص يُعد أمراً بالغ الأهمية لتنشيط الاقتصاد وتحفيز توليد الدخل، داعياً الحكومة الفلسطينية الجديدة إلى مواصلة جهودها في تنفيذ أجندتها الإصلاحية بوتيرة ثابتة، مع التركيز بوجه خاص على تعزيز الحوكمة وتحقيق الاستدامة المالية.
إعمار البشر والحجر
مع طي حرب غزة عامها الأول، تتفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية الاجتماعية بشكل مقلق، في ظل استمرار تدفق التقارير التي تنذر بأسوأ السيناريوهات على مختلف المستويات ورغم تكرار النداءات العاجلة لوقف أعمال العنف فوراً، وتعزيز الجهود لمعالجة الأزمة الإنسانية الملحة، وتخفيف حدة التدهور الاقتصادي، والبدء بإعادة إعمار شاملة ، إلا أن آلة الحرب لا تزال تواصل حصد الأرواح وتدمير عصب الاقتصاد. ولا شك أن مسيرة التعافي الاقتصادي ستكون طويلة ومُنهكة تتطلب التزاماً مادياً وانسانياً راسخًا من جميع الأطراف، وتستدعي على مدار سنوات ضخ مليارات الدولار لإعادة إعمار ما دمرته الحرب من حجر وبشر على حد سواء.