القاهرة: محمود عبد العظيم
على إيقاع التصعيد المتواصل وإتساع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية على جبهات إقليمية عدة يتسارع نبض الإقتصاد المصري خوفاً من أن يتحول المشهد الدامي في الشرق الأوسط إلى حرب إقليمية واسعة النطاق قد تجد فيها مصر نفسها طرفاً مباشراً إما بالتوريط وإما إضطراراً للدفاع عن ثوابت أمنها القومي .
وعلى الرغم من نقل الآلة العسكرية الإسرائيلية ثقلها وضرباتها الصاروخية إلى الجبهتيين اللبنانية والإيرانية مع التحرش باليمن والعراق وسوريا مع إستمرار قصف غزة إلا أن الإقتصاد المصري بدأ ينزف بدرجة كبيرة على وقع هذه العمليات وهو النزيف الذى يتبدى في مظاهر عدة أبرزها عودة التضخم الكاسح وإضطراب جديد في سوق الصرف مع تهديد الموسم السياحي الشتوي الذي طالما شكل مورداً مهماً من النقد الأجنبي للبلاد .
وحسب تقرير حديث لوزارة التخطيط والتنمية الإقتصادية فقد جاء تراجع معظم المؤشرات الإقتصادية خلال النصف الأول من هذا العام - الفترة من يناير/كانون الأول حتى يونيو\حزيران 2024 - كنتيجة مباشرة للحرب على غزة ناهيك عن مجموعة من "الفواتير" التي تحملتها مصر لأسباب إنسانية أو بحكم الجوار الجغرافي مع جبهة غزة .
يشير التقرير إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي تراجع إلى 2,4% خلال الفترة من مارس/أذار إلى يونيو/حزيران 2024 مقابل 3,8% في العام المالي الماضي وأن تباطؤ النمو جاء على خلفية تبعات التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط والتي إنعكست تأثيراتها على الأداء الإقتصادي العام وتجلى ذلك بصفة خاصة على أداء قناة السويس حيث سجل نشاط المجرى الملاحي تراجعاً حاداً بلغ 68% خلال الربع الأخير من العام المالي الجاري بسبب المخاطر الناجمة عن تهديدات الحركة الملاحية الدولية بمنطقة البحر الأحمر ومن ثم فقدت مصر موارد دولارية في حدود 7 مليارات دولار .
أيضاً بسبب هذه التوترات وعودة الإضطراب إلى سلاسل الإمداد فقد شهد قطاع الصناعات التحويلية -حسب التقرير الحكومي- والذي تبلغ مساهمته نحو 11,4% من الناتج المحلي الإجمالي تراجعاً بنحو 5,2%.
ويعدد التقرير أوجه الخسائر التي لحقت بالإقتصاد المصري كنتيجة مباشرة لهذا الصراع الإقليمي المفتوح لتشمل إنكماش النشاط الإستخراجي بنسبة 4,7% نتيجة مخاوف شركات النفط العالمية من توسيع أعمالها في دول المنطقة بصفة عامة وإيداع خطط تطوير هذه الأعمال الأدراج مؤقتاً وإنخفاض الإستثمارات الأجنبية الموجهة لقطاع الغاز وتباطؤ عمليات تطوير وتنمية الحقول وهو ما إنعكس سلباً على صافي ميزان الصادرات البترولية .
وعلى الرغم من الإرتفاع الإيجابي الذي حققه مؤشر مديري المشتريات خلال شهر أغسطس/آب حيث كسر حاجز الخمسين نقطة الفاصلة بين النمو والإنكماش لأول مرة منذ أربع سنوات ليبلغ 50,4 نقطة إلا أنه سرعان ما تعرض لإنتكاسة وسجل تراجعاً خلال شهر سبتمبر/أيلول ليبلغ 48,5 نقطة بسبب تراجع الطلب وضغوط ارتفاع التكاليف على خلفية عودة التضخم للإرتفاع مجدداً.
رياح معاكسة
وتمثل هذه التطورات السلبية رياحاً معاكسة لسعي الحكومه المصرية الرامي لدعم التعافي الإقتصادي في البلاد وإتخاذها العديد من الإجراءات لصقل السياسات النقدية والمالية وتنفيذ سلسلة من الإصلاحات الهيكلية التي ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية تشمل تعزيز صمود الإقتصاد الكلى وتعزيز القدره التنافسية وتحسين بيئة الأعمال ودعم الإنتقال الأخضر لأفساح الطريق أمام إستثمارات القطاع الخاص .
هذه الرياح المعاكسة باتت تهدد إمكانية خروج الإقتصاد المصري من أزمته الراهنة التي مافتئت تراوح مكانها رغم الجهود الحكومية والتدفقات المالية الخارجية وصمود المالية العامة فيما يتعلق بالإلتزام بجدول سداد أقساط الدين الخارجي حتى الآن، لاسيما وأن حرب غزة ترافق معها تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين إلى مصر بسبب الحرب الأهلية هناك الأمر الذي شكل مزيداً من الأعباء على المشهد الإقتصادي العام .
وإذا كانت مصر تستهدف نمواً في حدود 4% مع نهاية العام المالي الجاري 2024– 2025 إلا أن هذا المعدل قد يصبح صعب المنال في حال إستمرار الأوضاع الأقليمية الراهنة، ناهيك عن إتساع نطاق الحرب مع تأثر قطاعات حيوية على خريطة الإقتصاد الكلي بهذا التراجع في معدلات النمو حيث يعني هذا التراجع مباشرة إنخفاض عمليات التوظيف وتراجع الدخول وإنكماش الطلب وإتساع نطاق الفقر بما ينطوي كل ذلك على إمكانية حدوث إضطرابات إجتماعية أو توترات سياسية لا تحتملها الأوضاع العامة في البلاد في هذه المرحلة ومن ثم تصبح هذه الحرب خطراً حقيقياً يهدد الإقتصاد المصري في الفترة المقبلة .
توقعات سلبية
وإذا كانت كل المؤشرات والتوقعات تشير إلى أن سيناريو توسيع نطاق الحرب أكبرمن سيناريو التهدئة فإن ثمة توقعات سلبية تلوح في الأفق وسوف تمثل - إن حدثت -عرقلة كبيرة لعجلة الإقتصاد وتتوزع هذه التوقعات على أربع محاور رئيسية تشمل سعر الصرف والتضخم والتشغيل وعودة المديونية الخارجية للصعود مرة أخرى .
على صعيد المحور الأول والمتمثل في سوق الصرف فإن ثمة بوادر في الأفق تشير إلى إمكانية حدوث إرتفاع في سعر صرف الدولار أمام الجنيه في الشهور القادمة على خلفية إرتفاع فاتورة الواردات مقابل الصادارت حيث يلغت الفجوة في الميزان التجاري نحو 20 مليار دولار خلال الشهور الستة الأولى من العام الجاري وكذلك عودة إنخفاض صافي الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي - وإن كان لا يزال يحقق فائضاً حيث أن الإنخفاض هو في رصيد الفائض - إلى جانب إضطرار الحكومة لتدبير إحتياجات البلاد من السلع الرئيسية خاصة القمح والوقود لمدد أطول تحسباً لإندلاع حرب إقليمية شاملة ومن ثم تجري حالياً عملية تأمين للمخزون الاستراتيجي من هذه السلع الأمر الذي يمثل مطالبات دولاريه إضافية على البنك المركزي تدييرها.
هذه الضغوط وما يصاحبها من توقعات بشأن سعر الصرف باتت تشكل هاجساً لصانع القرار ويسعى جاهدا لتفادي أثارها السلبية عبر عملية تحفيزمتواصلة للاستثمار الأجنبى لتقابل المطالبات المتنامية على الدولار .
لكن في حالة إتساع نطاق الحرب سوف تتوقف أية تدفقات استثمارية أجنبية – خاصة الأستثمارات المباشرة – ومعها قد ينسحب جانباً من استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية - تدور حالياً حول 39 مليار دولار- مما قد يمثل تحدياً صعباً لسوق الصرف .
وعلى صعيد محور التضخم فإن عودة المؤشرالعام للإرتفاع يهدد جهود المركزي لخفض سعر الفائدة وتكلفة تمويل المشروعات وهو الأمر الذي يمثل مشكلة متعددة الأبعاد للإقتصاد المصري في هذه المرحلة حيث بلغ معدل التضخم مستويات غير مسبوقة وأثر سلبا على تكاليف الأنتاج ومن ثم يهدد ذلك النمو العام بما ينطوي عليه من مخاطر تراجع التشغيل والإجور وغيرها .
وأمام هذه المتغيرات قد تضطر الحكومة المصرية إلى العودة مجدداً لزيادة الانفاق العام لتعويض نقص إستثمارات القطاع الخاص على الرغم من إتفاق صندوق النقد الذي يحدد 20 مليار دولار سنوياً سقفاً للإنفاق الحكومي ومن ثم قد تضطر الحكومة الى العودة مجدداً إلى الإقتراض الخارجي لتمويل هذا الإنفاق الإستثماري الطارئ، الأمر الذى يهدد خطة وزارة المالية الرامية لوضع المديونية الخارجية على مسار نزولي .
أما المحورالأخير وهو الخاص بسعر النفط الذي يسجل إرتفاعاً متواصلاً - حتى يكاد يلامس 80 دولار للبرميل - وربما يكسر هذا المستوى السعري مع إتساع نطاق الحرب فسوف يشكل أزمة كبرى للإقتصاد المصري الذى يدفع مبلغاً يتراوح بين 2,5 إلى 3 مليارات دولار شهرياً لإستيراد غاز ومشتقات بترولية وهي فاتورة سوف ترتفع حال تدهور الأوضاع مما يضطر الحكومة لرفع سعر بيع الوقود والكهرباء ليسارع التضخم خطواته وتزداد فاتورة الأعباء المعيشية وطأة على عموم الموطنين .
إقتصاد حرب
هذه السيناريوهات المتشائمة لا تغيب عن استعدادات الحكومة المصرية للتعامل مع الموقف حيث تعلم جيداً أن حرباً إقليمية واسعة النطاق سوف تترك ندوباً دامية على جسد الإقتصاد المنهك الأمر الذي دفع الدكتور مصطفي مدبولي لان يصرح بوضوح أن الحكومة قد تضطر للتعامل بمنطق إقتصاد الحرب حال تدهور المشهد الإقليمي .
هذا التنبيه - أوأقل التحذير - لا يأتي من فراغ بل من رصد واقعي لمعطيات الملف الإقتصادي وما يحيط به من تحديات لكن التحول إلى اقتصاد حرب ليس بالأمر الهين للإقتصاد مأزوم أصلاً، وقياساً بعدد سكان يتجاوز 105 ملايين مواطن يضاف إليهم عشرة ملايين لاجئ اجنبي وفي ظل الإلتزام بسداد فاتورة مديونية خارجية كبيرة الأمر الذي من شأنه أن تجد كل الأطراف في "اللعبة لأقتصادية" نفسها على المحك وفي مواجهة إختيار سياسي واقتصادي صعب، لاسيما وأن بعض التعافي الذي تحقق في الشهور الأخيرة سوف يتبدد ونعود إلى دائرة محكمة الإغلاق من جديد وسوف يجد المواطن ومجتمع الأعمال وصانع القرار قدرته على التعاطي مع الموقف، تتراجع كل صباح بفعل ضغوط متشابكة ومعقدة وليس لأحد سلطان عليها حيث سيصبح الجميع في خانة رد الفعل لما قد يحدث هناك على جبهات القتال وفي أروقة الدبلوماسية العربية والدولية حتى ينقشع غبار الحرب وتتوقف الآله العسكرية عن الدوران وتصمت المدافع.