قمة بروكسل:
جسور التعاون تتسع بين الخليج وأوروبا

22.10.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
سوليكا علاء الدين

 استضافت العاصمة البلجيكية بروكسل في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر حدثاً تاريخياً بارزاً، تمثل في انعقاد أول قمة خليجية – أوروبية، التي جمعت رؤساء دول مجلس التعاون الخليجي مع نظرائهم من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. تُعد هذه القمة الأولى من نوعها على مستوى القادة منذ بدء العلاقات الرسمية بين الجانبين عام 1989، وقد شهدت مشاركة 33 شخصية رفيعة المستوى. تمّ خلال القمة التداول في سبل تحقيق حلول سلمية للنزاعات الحالية، والحد من أي تصعيد قد يؤدي إلى نشوب حرب شاملة في الشرق الأوسط. كما أكدت على أهمية تعزيز التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بهدف الوصول إلى شراكة استراتيجية متكاملة تشمل مجالات الطاقة والاستثمار والتجارة، مع إيلاء أولوية قصوى لمسألة التغير المناخي كأحد أكبر التحديات التي تواجه العالم.

شرارة جديدة

استعادت القمة الخليجية - الأوروبية زخماً ملحوظاً في إحياء مفاوضات إبرام اتفاقية تجارة حرة شاملة بين دول الخليج وأوروبا، بعد توقف دام 15 عاماً. وتُعد هذه الخطوة فرصة جديدة لفتح آفاق واسعة للتنمية والازدهار المشترك. وأكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى إنشاء ممر اقتصادي مع دول الخليج لتعزيز التجارة في مجالات الطاقة المتجددة، والبيانات، وتعزيز التبادلات بين الشعوب.

وكان مجلس التعاون الخليجي قد شرع في عام 1987، في إجراء مفاوضات مع الدول الأوروبية، استناداً إلى الرغبة في تعزيز التكامل الاقتصادي والاستثماري بين الجانبين. إذ تُعتبر ثروات الخليج النفطية مصدراً حيوياً للطاقة في أوروبا، بينما تمثل التكنولوجيا والخبرات الأوروبية محركاً رئيسياً للتنمية الاقتصادية في دول المجلس.

وبدأت العلاقات الاقتصادية بين المجلس الخليجي والاتحاد الأوروبي تتبلور مع توقيع اتفاقية التعاون في عام 1988، التي وضعت إطاراً للتعاون الاقتصادي الشامل. عقب ذلك، انطلقت مفاوضات لتوقيع اتفاقية تجارة حرة، ورغم تطور هذه المفاوضات بعد إنشاء الاتحاد الجمركي، إلا أنها واجهت العديد من التحديات التي أدت إلى تعليقها بشكل مؤقت في عام 2008. ومع ذلك، ظلت الرغبة في تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين قوية، إذ أدرك الطرفان أهمية هذه الشراكة في مواجهة التحديات العالمية المتزايدة.

شراكة اقتصادية استراتيجية

تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول مجلس التعاون الخليجي ، مستفيدة من النمو الاقتصادي المتسارع في المنطقة وزيادة أهميتها الجيوسياسية على مدار العقدين الماضيين. وأصبحت دول الخليج قوة اقتصادية مؤثرة تلعب دوراً رائداً في التجارة الدولية وصناعة القرارات الإقليمية، مما يجعلها شريكاً استراتيجياً لا غنى عنه في تحقيق الاستقرار والازدهار في المنطقة.

ويشهد التعاون الاقتصادي بين الطرفين زخماً متزايداً، مدفوعاً بارتفاع حجم الاستثمارات المتبادلة بين الطرفين. إذ بلغت الاستثمارات الخليجية في الاتحاد الأوروبي 306 مليارات يورو، بينما وصلت الاستثمارات الأوروبية في دول الخليج إلى 442 مليار يورو. وفقاً لبيانات "Dealroom"، نمت الاستثمارات الخليجية في الشركات الأوروبية الناشئة بشكل كبير، حيث قفزت من 627 مليون دولار في عام 2018 إلى 3 مليارات دولار في عام 2023، مما يمثل 5 في المئة من إجمالي التمويل في المنطقة. ويؤكد هذا الرقم على الدور المتنامي للمستثمرين الخليجيين في دعم الابتكار ودفع عجلة النمو في أوروبا.

ونما الاستثمار الأجنبي المباشر بين دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي بشكل متسارع خلال العقد الماضي، حيث سجل حجم الاستثمارات المتبادلة زيادة ملحوظة، ليصل إلى 177.8 مليار دولار من دول مجلس التعاون إلى الاتحاد الأوروبي، و233.6 مليار دولار في الاتجاه المعاكس عام 2022.

التبادل التجاري

 كذلك، يشغل الاتحاد الأوروبي مكانة بارزة بين الشركاء التجاريين لدول الخليج، حيث يحتل المركز الثاني بعد الصين. وبحسب المفوضية الأوروبية، تُعتبر دول الخليج الشريك التجاري السابع للاتحاد الأوروبي وسادس أكبر سوق تصدير للاتحاد الأوروبي ، بحجم تجارة ثنائية بلغ نحو 187 مليار دولار في عام 2023، ما يمثل نحو 11.1 في المئة من إجمالي تجارة دول الخليج في السلع. في المقابل، وصل حجم التبادل مع الصين إلى 287 مليار دولار وفقاً للجمارك الصينية، ومع الهند إلى 185 مليار دولار. كما بلغت التجارة الثنائية في الخدمات 68 مليار يورو في عام 2022.

هذا وتستحوذ دول الخليج على 7.5 في المئة من سوق واردات الاتحاد الأوروبي، بقيمة إجمالية بلغت 83  مليار دولار، مع تركيز رئيسي على صادرات الوقود ومنتجات التعدين التي تمثل نحو 55 مليار دولار، والسلع المصنعة بقيمة 5.3 مليار دولار. في المقابل، سجل إجمالي صادرات الاتحاد الأوروبي 102 مليار دولار، حيث هيمنت عليها الآلات ومعدات النقل بنسبة 41.4 في المئة، والمواد الكيميائية بنسبة 16.3 في المئة، والسلع المصنعة المتنوعة بنسبة 13.1 في المئة.

ويتجاوز التعاون بين الجانبين التجارة والاستثمار ليشمل مجالات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية، مما يعكس عمق العلاقات الاقتصادية بينهما. وفي ظل التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، تهدف الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الطرفين إلى تعزيز التعاون في مجالات حيوية مثل التكنولوجيا والهيدروجين الأخضر والمعادن النادرة، مما يعكس التزام الطرفين بالانتقال نحو اقتصاد أكثر استدامة.

إنفاق خليجي ينعش أوروبا

في خطوة تهدف إلى تعزيز التعاون بين الخليج وأوروبا ، أقر الاتحاد الأوروبي في 22 نيسان/ أبريل الماضي منح مواطني دول الخليج العربي تأشيرة شنغن متعددة الدخول، صالحة لمدة 5 سنوات عند الطلب الأول. وأدّى هذا القرار إلى تسهيل سفر الخليجيين إلى دول الشنغن، مما عزّز التبادل السياحي والثقافي وتنشيط الحركة التجارية بين الجانبين.

ويستهدف الاتحاد الأوروبي من خلال هذه المبادرة جذب السياح الخليجيين ذوي القدرة الشرائية العالية، نظراً إلى أهمية هذا القطاع في تنشيط الاقتصاد الأوروبي وزيادة الإيرادات السياحية. وأشارت إحصائيات منظمة السياحة العالمية إلى أن الإنفاق السياحي للخليجيين يتجاوز متوسط الإنفاق العالمي بنحو 6.5 مرة، مما يجعلهم فئة مستهدفة رئيسية للاقتصادات الأوروبية، خصوصاً خلال المواسم السياحية مثل فصل الصيف.

وتتصدر أوروبا قائمة الوجهات السياحية المفضلة لدى السياح الخليجيين. وفي هذا السياق، أعلن المكتب الوطني الألماني للسياحة عن تحقيق نجاح مُثمر في جذب السياح من دول مجلس التعاون الخليجي خلال عام 2023، حيث سجل ارتفاعاً بنسبة 15 في المئة في عدد الزوار، وزيادة مماثلة في عدد ليالي المبيت، ليصل الإجمالي إلى 1,297,256 ليلة. وهذه الأرقام تعكس جاذبية ألمانيا كوجهة سياحية متكاملة وتؤكد أهمية السوق الخليجي في تعزيز السياحة الألمانية.

السعودية... قمة وصدارة

شكلت قمة بروكسل محطة فارقة في مسيرة العلاقات الخليجية - الأوروبية، التي تعود جذورها إلى اتفاقية التعاون لعام 1988. وقد رسمت هذه القمة معالم شراكة استراتيجية شاملة تغطي الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية، بهدف تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة في المنطقة. وستواصل المملكة العربية السعودية هذه الجهود من خلال استضافتها للدورة الثانية من القمة في عام 2026. 

وتُعتبر الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة العربية السعودية ركيزة أساسية للعلاقات الثنائية بين البلدين ، حيث يولي الاتحاد أهمية قصوى لتعزيز هذه الشراكة من خلال تعميق التعاون في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك. وقد أكد رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، خلال زيارته للسعودية في أيلول/ سبتمبر 2022، على أهمية هذه الشراكة في تحقيق تنسيق سياسي أقوى وتعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية والتنموية، بما في ذلك الطاقة المتجددة، مشدداً على ضرورة تعزيز الحوار بين الشعوب، ولا سيما بين الشباب.

وتؤكد أحدث البيانات الصادرة عن هيئة التجارة الخارجية السعودية أن المملكة تتبوأ صدارة الشركاء التجاريين للاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 80 مليار دولار أمريكي في عام 2023، مسجلاً نمواً سنوياً مركباً بنسبة 5.08 في المئة خلال الفترة من 2019 إلى 2023. كما يتصدر الاتحاد الأوروبي قائمة المستثمرين الأجانب في المملكة العربية السعودية، حيث تستثمر نحو 1300 شركة أوروبية في مختلف القطاعات الاقتصادية، والتي توفر فرص عمل لأكثر من 20 ألف عامل أوروبي في المملكة.

وتأكيداً على صلابة العلاقات الاقتصادية بين المملكة العربية السعودية والاتحاد الأوروبي، شهدت الرياض تأسيس أول غرفة تجارية أوروبية في منطقة الخليج. إذ تهدف هذه الغرفة إلى تسهيل التبادل التجاري والاستثماري بين الطرفين، ومعالجة التحديات التي تواجه الشركات. كما تسعى لتقديم رؤى وتوصيات استراتيجية تساهم في تسهيل وصول الشركات إلى الأسواق الأوروبية، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام في المنطقة.

وفي هذا الإطار، تفتح رؤية 2030 والاتفاق الأخضر الأوروبي آفاقاً واسعة للتعاون في مجال الطاقة المتجددة، مما يتيح للبلدين الاستفادة من الخبرات المتبادلة للتصدي للتغير المناخي وتسريع التحول نحو الطاقة النظيفة. كما تشمل مجالات التعاون التجارة والاستثمار، وتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات التحول الرقمي، وسلاسل التوريد المستدامة، والتحول الأخضر.

نحو شراكة مستدامة

مع تزايد التوترات الجيوسياسية والاضطرابات الاقتصادية العالمية، يدرك القادة الأوروبيون أهمية الشراكة مع الخليج العربي في تحقيق التنمية المستدامة. تهدف هذه القمة إلى ترسيخ هذه الشراكة الاستراتيجية  من خلال بناء جسور الثقة وتعزيز التعاون في مواجهة التحديات المشتركة، وفتح آفاق جديدة للتبادل الاقتصادي والاستثماري، بهدف بناء مستقبل مستدام وآمن للجميع ، مع التركيز على ترسيخ دعائم الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.