كتب زياد بهاء الدين*
لا بأس- من حيث المبدأ- أن نعيد التفاوض مع صندوق النقد الدولي على بنود الاتفاق المنعقد معه في 2016، والمعدل نهاية العام الماضى. فمن طبيعة أى اتفاق مبرم بين طرفين يتمتعان بالإرادة الحرة والاستقلال في القرار أن يكون محل مراجعة إذا ما اقتضت الظروف ووافق الجانبان على التعديل. ومصر حينما أبرمت اتفاقها مع الصندوق قامت بذلك طلبًا للتمويل والمشورة والدعم المعنوى كى نخرج من أزمة طاحنة.
واستجاب الصندوق بالفعل، ولكن- كما يحدث مع كل بلدان العالم- في إطار برنامج إصلاح عرضته الحكومة المصرية والتزمت به مع الصندوق كى تقنع العالم بأنها لا تسعى فقط للخروج من الأزمة وإنما لتجنب وقوعها مرة أخرى.
الواضح مع ذلك أن التكلفة الاجتماعية للبرنامج صارت بالغة الوطأة وأن الارتفاعات الأخيرة في أسعار الكهرباء والطاقة أثارت حفيظة الدولة على ما سوف يتسبب فيه برنامج الإصلاح المتفق عليه من احتقان.
ولكن إذا كان هناك ما يدعو للنظر في مخارج تجنب البلد مزيدًا من التوتر، والناس مزيدًا من مشقة العيش، فإن هذه المراجعة ينبغى أن تأخد في حسبانها الاعتبارات التالية:
الاعتبار الأول أن دخول مصر في اتفاق مع الصندوق كان بغرض الحصول على التمويل والحصول أيضًا- وربما الأهم- على شهادة دولية بأن البلد على مسار إصلاحي يطمئن البنوك والمؤسسات العالمية والدول المانحة، فتصبح أكثر استعدادًا للتعاون والمساعدة.
وهذا ما حدث بالفعل، إذ لحق الاتفاق الأخير عدة برامج دولية للتعاون الاقتصادي، أهمها مع الاتحاد الأوروبي. لهذا فإن السؤال الدائر في الأوساط المالية العالمية هو: هل اقتراح تعديل البرنامج يعني العدول عن برنامج الإصلاح الاقتصادي كاملًا، أم مجرد تغيير في مواعيد وفي مستهدفات تفصيلية دون الخروج عن الإطار العام المتفق عليه؟. وهذه في رأيي مسألة جوهرية، والأفضل أن تعبر عنها الحكومة بشكل عاجل كي تحافظ على مصداقية الدولة في المضي في الإصلاحات الهيكلية المطلوبة.
الاعتبار الثاني أن تصوير مشكلتنا الأساسية كما لو كانت مع صندوق النقد ليس دقيقًا. لجوؤنا للصندوق وغيره من المؤسسات الدولية كان لحاجة ملحة بعدما وجدنا أنفسنا في وضع بالغ الصعوبة والإحراج من حيث تراكم الديون الخارجية، والمطالبات بسداد أقساط حالة، وعجز متزايد في الموازنة، وقيود على الاستيراد، وانفلات في السوق السوداء للعملة، وبالطبع الغلاء الشديد الناجم عن كل ما سبق.
المشكلة إذن كانت- ولاتزال- الإدارة الاقتصادية والسياسات التي أودت بنا لهذا الوضع. لهذا فإن الذي ينبغي أن يشغلنا هو كيفية علاج المشاكل المزمنة التي دفعت بنا للأزمة السابقة كي لا تتكرر مرة أخرى وربما بحدة أكبر.
الخطاب الرسمي يضع اللوم كله على ثلاثة أحداث كبرى ألمَّت بالعالم وبمنطقتنا: وباء كورونا، ثم حرب أوكرانيا، ثم حرب غزة ومن بعدها لبنان. والأحداث الثلاثة جسام بلا شك، وآثارها على العالم كله كانت كبيرة، وفي الحالة المصرية بالذات، فإن تعثر ملاحة قناة السويس أضاف خسارة من نوع خاص لاقتصادنا القومي. كل هذا صحيح، ولكنه ليس الصورة الكاملة.
هناك سياسة اقتصادية سبقت كل هذا، واستمرت مع كل هذا. هذه سياسة ضاعفت من آثار الأزمات الثلاث علينا، وجعلت اقتصادنا أكثر عرضة للتأثر وأقل استعدادًا للتأقلم. سياسة اقتصادية استندت إلى تدخل واسع للدولة في كل الأنشطة الاقتصادية، وإهمال لمتطلبات الاستثمار الخاص، وتوسع في الاقتراض المحلي والخارجي، وفتح عدد هائل من المشاريع القومية في ذات الوقت، بما جعلنا- حينما هجمت علينا أزمة تلو الأخرى- في وضع ضعيف ومنهك.
أما الاعتبار الثالث فهو ضرورة مراعاة البعد الاجتماعي. وهذا لا يعنى تأجيل الإصلاح الاقتصادي ومحاولة تعويض الغلاء الشديد ببعض المنح هنا وهناك.. بل إدراك أنه بجانب الإنفاق الاجتماعي المطلوب فورًا لإنقاذ الناس من الغلاء غير المحتمل، فإن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي والعميق والمستدام هو ما يؤدي لطفرة في التشغيل والأجور، كما يزيد عوائد الدولة من الضرائب المطلوبة للإنفاق الاجتماعي.
لابد إذن من الإصلاح.. ولابد من تحديد أي السياسات التي ينبغي تعديلها أو العدول عنها.. ولابد من الحد من الإنفاق فيما يمكن تأجيله من المشروعات القومية.. ولابد من وضع ضوابط حقيقية وإطار واضح لنشاط الدولة الاقتصادي.. ولابد من بث روح الثقة اللازمة لاستعادة استثمار القطاع الخاص.. ولابد من سياسة حماية اجتماعية لا تتعارض مع تشجيع الاستثمار وإطلاق طاقات الإنتاج والتشغيل بل تدعمهما.. المطلوب هو استمرار الإصلاح وتوازنه اجتماعيًا.
معادلة صعبة.. وحلها ليس سهلًا.. ولكن البداية في كل الأحوال هي إعادة تحديد الأولويات والاستعداد للعدول عما ثبت عدم ملاءمته من السياسات والبرامج.
*صحيفة المصري اليوم