آفاق الاقتصاد العالمي:
بين تفاؤل حذر ومخاطر جيوسياسية تهدد النمو

25.10.2024
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email
سوليكا علاء الدين

أصدر صندوق النقد الدولي، خلال اجتماعاته السنوية في العاصمة الأميركية واشنطن، أحدث تقاريره بشأن آفاق الاقتصاد العالمي لشهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024  حيث توقع أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي العالمي 3.2 في المئة خلال العامين 2024 و 2025. وتضمن التقرير تحليلات شاملة وبيانات دقيقة حول أداء الاقتصاد العالمي، مع تسليط الضوء على التطورات الأخيرة والتحديات التي تلوح في الأفق. كما قدّم توقعات مفصلة حول مسار النمو الاقتصادي في مختلف المناطق، في وقت تتسم فيه المرحلة الراهنة بعدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، مما يجعلها واحدة من أكثر الفترات تعقيداً منذ عقود.

بين الاستقرار والتحديات

أشار الصندوق إلى أن النمو الاقتصادي العالمي سيشهد استقراراً نسبياً، حيث من المتوقع أن ينخفض من 3.3 في المئة في عام 2023 إلى 3.1 في المئة بحلول عام 2029. ولم تطرأ تغييرات ملحوظة على هذه التوقعات مقارنة بالتقديرات السابقة للاقتصاد التي صدرت في نيسان/أبريل 2024 وتشرين الأول/أكتوبر 2023. ومع ذلك، تظل التوقعات للنمو العالمي خلال السنوات الخمس المقبلة ضعيفة وخيبة للأمال مقارنة بمتوسط ما قبل جائحة كوفيد-19.

وتستمر العوامل الهيكلية المعاكسة، مثل شيخوخة السكان وضعف الإنتاجية، في كبح النمو المحتمل في العديد من الاقتصادات. ومع ذلك، يكشف التقرير عن تحولات طفيفة في أداء الاقتصادات المختلفة؛ فقد شهدت الولايات المتحدة تحسناً في توقعات النمو، بينما واجهت الاقتصادات الأوروبية الكبرى بعض التحديات التي قد تؤثر سلباً على مسارها الاقتصادي.

على النقيض، أدت التحديات التي واجهتها سلاسل الإمداد العالمية، وخاصة في قطاع الطاقة، بالإضافة إلى الصراعات والاضطرابات المدنية والظواهر المناخية المتطرفة ، إلى تراجع التوقعات بشأن نمو اقتصادات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا جنوب الصحراء. لكن الطفرة في الطلب على أشباه الموصلات والإلكترونيات، مدفوعة بالاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي، ساهمت في تعزيز التوقعات الاقتصادية في آسيا الصاعدة، مما عوّض جزئياً عن التراجع في مناطق أخرى.

انحسار التضخم وتصاعد المخاطر

وفيما يتعلق بالتضخم، أعلن صندوق النقد الدولي عن تحقيق تقدم ملموس في جهود مكافحة التضخم العالمي، متوقعاً تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات القادمة، حيث يمن المرجح أن ينخفض من 6.7 في المئة في عام 2023 إلى 5.8 في المئة في 2024 ، ثم إلى 4.3 في المئة في عام 2025. ويُلاحظ أن الاقتصادات المتقدمة ستتمكن من تحقيق أهدافها التضخمية بشكل أسرع مقارنة بنظيراتها الناشئة والنامية. كما أسهم تراجع حدة الاختلالات الدورية منذ بداية العام في تعزيز التوافق بين النشاط الاقتصادي والناتج المحتمل في الاقتصادات الكبرى، مما أدّى إلى انخفاض التباينات في معدلات التضخم بين الدول ، وبالتالي ساعد في تهدئة الضغوط التضخمية العالمية. وبالرغم من ذلك، حذر الصندوق من أن التصعيدات في الصراعات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط، قد تعرقل هذا التقدم وتؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية ويشكل مخاطر كبيرة على أسواق السلع الأساسية.

ورغم استقرار أسعار السلع، يُشير ارتفاع أسعار الخدمات في العديد من المناطق يشير إلى وجود عوامل تضخمية متجذرة مما يبرز أهمية فهم الديناميكيات عبر القطاعات ويستدعي سياسات نقدية أكثر دقة.

من جهة أخرى، تتجه المخاطر المحيطة بالآفاق العالمية نحو التطورات السلبية في ظل تصاعد حالة عدم اليقين بشأن السياسات. وقد تؤدي التقلبات المفاجئة في الأسواق المالية، كما حدث في أوائل آب/ أغسطس، إلى تشديد الأوضاع المالية، مما يؤثر سلباً على الاستثمار والنمو، خصوصاً في الاقتصادات النامية التي تعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي. وقد تدفع هذه الظروف إلى هروب رؤوس الأموال، ويزيد من حدة أزمة المديونية.

وقد تؤدي التقلبات المفاجئة في أسعار السلع الأولية، نتيجة التوترات الجيوسياسية، إلى استمرار الاضطرابات في عملية تخفيف التضخم، مما يحد من قدرة البنوك المركزية على تيسير السياسة النقدية، وبالتالي فرض تحديات جسيمة على السياسات المالية والاستقرار المالي. كما أن انكماش قطاع العقارات الصيني بشكل أشد مما هو متوقع، وخاصة إذا تسبب في زعزعة الاستقرار المالي ، من شأنه أن يتسبّب في تراجع ثقة المستهلكين وتولد تداعيات سلبية على الاقتصاد العالمي نظراً للدور البارز للصين في التجارة الدولية.

علاوة على ذلك، فإن تشديد السياسات الحمائية قد يؤدي إلى تفاقم التوترات التجارية، ويحد من كفاءة الأسواق، ويزيد من تعطل سلاسل الإمداد. كما يمكن أن تؤدي التوترات الاجتماعية المتزايدة إلى حدوث اضطرابات، مما يلحق الضرر بثقة المستهلكين والمستثمرين، وقد يؤخر إقرار الإصلاحات الهيكلية الضرورية وتنفيذها.

 في أعقاب انحسار الاضطرابات الدورية في الاقتصاد العالمي، تبرز الحاجة إلى إعادة معايرة أولويات السياسات المالية على المدى القريب. إذ يقتضي هذا التحول ضرورة قيام العديد من الدول بتعديل مسار سياساتها المالية بشكل تدريجي، مع التركيز على ضمان استدامة الدين العام وتعزيز المرونة المالية لمواجهة الصدمات المستقبلية.

الأسواق الناشئة.. آسيا تقود النمو

أظهرت التوقعات بشأن الأسواق الناشئة اتجاهاً تصاعدياً في آفاق النمو، مدعومة بقوة من الاقتصادات الآسيوية. وبشكل مشابه للاقتصادات المتقدمة، تظل آفاق النمو في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية مستقرة بشكل ملحوظ على مدى العامين القادمين، حيث يُتوقع أن تصل إلى نحو 4.2 في المئة، لتستقر عند 3.9 في المئة بحلول عام 2029.

كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة، تشهد الاقتصادات الناشئة والنامية ديناميكيات تعويضية بين مجموعات البلدان. وقد تم رفع توقعات النمو لهذه الاقتصادات بنسبة 0.1 في المئة عن التوقعات السابقة لعام 2024. ويعكس هذا التحسن بشكل أساسي الترقيات المتوقعة للاقتصادات الآسيوية، مثل الصين والهند، التي تفوق بشكل كبير التعديلات السلبية لتوقعات النمو في مناطق مثل إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

ومن المتوقع أن يتراجع النمو القوي في آسيا الناشئة، من 5.7 في المئة في عام 2023 إلى 5.0 في المئة في عام 2025. ويعكس ذلك تباطؤاً مستداماً في أكبر اقتصادين في المنطقة. وفي الهند، يتوقع أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي من 8.2 في المئة في عام 2023 إلى 7 في المئة في عام 2024 و 6.5 في المئة في عام 2025، جراء استنفاد الطلب الكامن المتراكم خلال فترة الجائحة، وإعادة الاقتصاد لاستعادة كامل طاقاته. من المتوقع أن يكون التباطؤ الاقتصادي في الصين أكثر تدريجية، وذلك رغم استمرار ضعف قطاع العقارات وانخفاض ثقة المستهلك. ويعزى ذلك إلى أداء قطاع الصادرات الذي فاق التوقعات، مما ساهم في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4.8 في المئة تقريبًاً في عام 2024. وشهدت توقعات النمو الاقتصادي مراجعة صعودية، حيث ارتفعت بنسبة 0.2 في المئة لعام 2024 و0.4 في المئة لعام 2025 مقارنة بتوقعات شهر نيسانأبريل. وقد ساهمت التدابير السياسية الأخيرة في تعزيز هذه التوقعات الإيجابية على المدى القصير.

على عكس الاتجاهات العالمية، من المتوقع أن يشهد نمو منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحسناً ملحوظاً، حيث يرتفع من 2.1 في المئة في عام 2023 إلى 3.9 في المئة في عام 2025. ويعزى هذا التحسن إلى توقع انتهاء الاضطرابات المؤقتة في إنتاج النفط والشحن. ومع ذلك، شهدت توقعات عام 2024 مراجعة هبوطية طفيفة نتيجة تمديد قرارات خفض إنتاج النفط في السعودية، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية الناجمة عن الصراع في السودان.

أما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من المتوقع أن يزداد نمو الناتج المحلي الإجمالي بشكل مماثل، من 3.6 في المئة تقريباً في عام 2023 إلى 4.2 في المئة في عام 2025، مع تراجع الآثار السلبية لصدمات الطقس السابقة وتخفيف القيود على العرض تدريجياً. وأدى التباطؤ الاقتصادي في نيجيريا، وخاصة في النصف الأول من العام، بالإضافة إلى الانكماش الكبير في اقتصاد جنوب السودان نتيجة الصراع المستمر، إلى تعديل التوقعات الإقليمية لعامي 2024 و 2025، حيث انخفضت بنسبة 0.2 نقطة مئوية لعام 2024 وارتفعت بنسبة 0.1 نقطة مئوية لعام 2025.

وفي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، من المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي قليلاً من 2.2 في المئة في عام 2023 إلى 2.1 في المئة في عام 2024، قبل أن يستعيد عافيته ويرتفع إلى 2.5 في المئة في عام 2025. وفي البرازيل على وجه الخصوص، توقع التقرير أن يحقق الاقتصاد نمواً بنسبة 3.0 في المئة في عام 2024 ثم يتباطأ إلى 2.2 في المئة في عام 2025. وتعد هذه التوقعات مراجعة صعودية مقارنة بالتوقعات السابقة، ويعود الفضل بشكل رئيسي إلى قوة الاستهلاك والاستثمار في النصف الأول من العام، مدعومة بضيق سوق العمل والتحويلات الحكومية. ومع ذلك، من المتوقع أن يتراجع النمو في عام 2025 بسبب استمرار السياسة النقدية التقييدية وتباطؤ سوق العمل.

وبسبب تشديد السياسة النقدية وزيادة الأعباء المالية، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد المكسيكي نمواً بطيئاً جداً، حيث يبلغ 1.5 في المئة  في عام 2024 و1.3 في المئة في عام 2025، وذلك نتيجة ضعف الطلب المحلي .وبشكل عام، أدت التعديلات الأخيرة إلى استقرار توقعات النمو الإقليمي بشكل عام منذ نيسان/ أبريل.

هذا وتُظهر أوروبا الناشئة والنامية نمواً ثابتاً بمعدل 3.2 في المئة في عام 2024، ولكن من المتوقع أن يتباطأ هذا النمو بشكل كبير إلى 2.2 في المئة في عام 2025. ويعكس هذا التراجع تباطؤاً حاداً في روسيا، حيث يتوقع أن ينخفض النمو من 3.6 في المئة في عام 2023 إلى 1.3 في المئة في عام 2025، نتيجة لتراجع الاستهلاك الخاص والاستثمار وسط انخفاض الضغوط في سوق العمل وتباطؤ نمو الأجور.

أما في تركيا، فمن المتوقع أن ينخفض معدل النمو من 5.1 في المئة في عام 2023 إلى 2.7 في المئة في عام 2025، حيث يتركز هذا التباطؤ في سياق التحول نحو تشديد سياسات نقدية و مالية أكثر تشدداً والتي بدأت منذ منتصف عام 2023.

إصلاحات لدعم النمو

تُبرز التوقعات الاقتصادية الحالية، التي تشير إلى نمو ضعيف بنسبة 3.1 في المئة، الحاجة الملحة لتعزيز الإنتاجية وتحسين آفاق النمو، إذ تُعد هذه الخطوات السبيل الوحيد لمواجهة التحديات المتزايدة، مثل شيخوخة السكان والتغير المناخي، وزيادة المرونة، وضمان مستقبل مستدام للجميع.

وفي ظل المنافسة الخارجية المتزايدة والضعف الهيكلي في قطاعي التصنيع والإنتاجية، تسعى العديد من الدول إلى تنفيذ سياسات صناعية وتجارية لحماية العمال والصناعات المحلية. ومع ذلك، غالباً ما تعكس الاختلالات الخارجية قوى اقتصادية كبرى، مثل ضعف الطلب المحلي في الصين أو الطلب المفرط في الولايات المتحدة، مما يستدعي تعديل السياسات الاقتصادية الكلية بشكل مناسب للتعامل مع هذه التحديات.

علاوة على ذلك، بينما قد تعزز السياسات الصناعية والتجارية الاستثمار والنشاط على المدى القصير، خاصة عند الاعتماد على الدعم الممول بالديون، فإنها تؤدي في معظم الأحيان إلى ردود فعل سلبية وتفشل في تحقيق تحسينات مستدامة في مستويات المعيشة. لذا ينبغي تجنب هذه السياسات عندما لا تتم معالجة أوجه القصور في السوق بشكل دقيق، أو عندما تكون المخاوف الأمنية الوطنية غير واضحة. وفقاً لصندوق النقد الدولي، يجب أن ينبع النمو الاقتصادي من إصلاحات محلية طموحة تعزز التكنولوجيا والابتكار، وتحسن المنافسة وتوزيع الموارد، وتعزز التكامل الاقتصادي، وتحفز الاستثمار الخاص المنتج.

لذا، يتطلب تحسين آفاق النمو على المدى المتوسط تنفيذ إصلاحات هيكلية جذرية مع الحفاظ على شبكات الأمان الاجتماعي ودعم الفئات الضعيفة بشكل مستمر. كما تبرز الحاجة الملحة للتعاون متعدد الأطراف أكثر من أي وقت مضى، لتسريع عملية التحول الأخضر وتعزيز جهود إعادة هيكلة الديون. في هذا السياق، يُعتبر تعزيز الأطر متعددة الأطراف القائمة على القواعد أمراً بالغ الأهمية لضمان استفادة جميع الاقتصادات من ثمار النمو في المستقبل.