التحق لبنان "رسمياً" بقافلة الدول غير المتعاونة والتي تعاني قصوراً في مكافحة تبييض الأموال، مدفوعاً بتلكؤ متعمّد او أقله عجز منظومة الحكم بسلطاتها غير المالية كافة، في الاستجابة لأي من التدابير القانونية والاجرائية والقضائية والأمنية التي تنشدها المتطلبات الدولية وتحددها عبر مجموعتي العمل المالي العالمية والاقليمية.
ولم يكن مفاجئاً اقدام مجموعة العمل المالي الدولية في ختام اجتماعتها الدورية في باريس على ادراج لبنان ضمن لائحة الدول غير المتعاونة كفاية في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الأرهاب (القائمة الرمادية)، بعدما استنفذ المهل الزمنية المتتالية على مدى نحو 18 شهراً من دون تحقيق اي تقدم جوهري اواتخاذ ما يلزم من تعديلات قانونية وتدابير تنفيذية واجرائية لتحقيق الاستجابة المكتملة لمتطلبات محددة تفضي الى معالجة أوجه القصور المحددة من قبل مجموعتي "فاتف" الاقليمية والدولية.
ومن غير الخفي، ان السلطة النقدية الممثلة بحاكمية البنك المركزي وهيئة التحقيق الخاصة، تبلغت قبل اشهر، تعذر منح لبنان فترة سماح جديدة، طالما لم تلمس المجموعة عبر فرق التقييم المتبادل اتخاذ خطوات جدية ولا مخططات واضحة من قبل السلطات السيادية غير المالية للموجبات المحددة وفي مقدمها التصدي للفساد المستشري في مؤسسات القطاع العام وسد الثغرات المتعددة التي تتيح مرور عمليات مشبوهة تقع تحت تصنيف الجرائم المالية وفق المعايير الدولية.
وبالفعل، استدعت التحذيرات الدولية المبكرة، مبادرة حاكم البنك المركزي بالانابة الدكتور وسيم منصوري القيام بجولات اتصالات مباشرة في مراكز القرار المالي العالمي، ولا سيما في واشنطن ولندن ولاحقا في باريس، بهدف احتواء التداعيات التلقائية للقرار المرير، وحقق نجاحاً مشهوداً في تحييد القطاع المالي عن التبعات الفورية عبر اثبات التزاماته بالمعايير المتشددة لمكافحة غسل الأموال، وبالتالي عزل أي تاثيرات على تعاملاته وتحويلاته مع شبكة البنوك المراسلة.
ويؤكد مرجع كبير في السلطة النقدية، ان الحراك الاستباقي من قبل الحاكم واستثمار رصيد الثقة التاريخي لدى البنوك العالمية بكفاءة القطاع المالي المحلي وصرامته في تطبيق المعايير الدولية في منع مرور أي عمليات مشبوهة، ساهما بفعالية في تأمين ارضية لهبوط القرار بشكل "سلس" نسبياً على الجهاز المصرفي وشركات تحويل الأموال، ولا سيما بعد تلقي اشعارات خارجية مطمئنة باستمرار عمليات التحاويل وفتح الاعتمادات وفق نسقها وكلفتها السارية ما قبل التصنيف المستجد.
مع ذلك، يؤكد مسؤول مصرفي معني، إن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية يعني عملياً وضع النظام المالي تحت مراقبة شديدة، مما سيزيد من تعقيدات التعاملات المالية، وسيكون لذلك تأثيرات سلبية لاحقة على التعاملات المصرفية مع الخارج اذا استمر تلكؤ السلطات المسؤولة في استكمال الاستجابة للمتطلبات الدولية. علماً ان الإدراج سيفاقم حكماً من أزمة الثقة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وبما سيؤثر حكماً على إمكانية استقطاب الأموال من الخارج في المستقبل.
وبالتوازي، لم تغفل هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها منصوري، وبصفتها المنسق الوطني لعملية التقييم، عن المبادرة سريعاً الى اطلاع رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء على خلاصات التقارير التي تلقتها من مجموعتي "فاتف". بل هي حثت السلطات المعنية، ومن دون تحقيق نتائج تذكر، للتواصل مع الجهات الداخلية ذات الاختصاص في شأن الإجراءات التصحيحية المطلوبة بغية تعزيز فعالية منظومة مكافحة تبييض الاموال وتمويل الإرهاب المحلية، وباعتبار انه يتوجب على لبنان إرسال تقارير متابعة بالتقدم الحاصل خلال العام الحالي.
ووفق تحليلات مصرفية للمآخذ الدولية وأوجه القصور التي يعانيها لبنان في مكافحة غسل الأموال، تفاقمت سلبياً بفعل توسع الاقتصاد النقدي جراء انفجار الازمات المالية والنقدية بعد خريف العام، وبما يصل الى نحو 10 مليارات دولار وفق تحديد البنك الدولي، 2019، اصبح يمثل مصدر قلق رئيسي لمنظمتي "فاتف" الاقليمية والدولية، حيث يسهم في صعوبة تتبع الأموال ومكافحة النشاطات غير المشروعة. وهذا الوضع يفاقم التحديات ويضع جزءاً كبيراً من التعاملات المالية خارج نطاق رقابة مصرف لبنان والمصارف.
يجدر التنويه، بأن لبنان يستعيد، رغم تبدل الظروف والوقائع، هذه التجربة المريرة بعد نحو 22 عاماً من خروجه الناجح من القائمة عينها في العام 2002، عبر استحداث منظومة قانونية واجرائية متكاملة لاقت تأييد وثقة مجموعة العمل الدولية حينها، لتتخذ القرار بشطب تصنيفه ضمن لائحة الدول غير المتعاونة. ثم حفزه للمساهمة في تأسيس مجموعة "فاتف" الاقليمية واختيار ممثله (الدكتور محمد بعاصيري) لمنصب اول رئيس دوري لمجموعة العمل المالي الاقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي انطلق أواخر العام 2004، وتتخذ من البحرين مقراً رئيسياً لها.