بقلم جهاد الزين*
على مدى جيلين، جيل أواخر الستينات والسبعينات من القرن العشرين، ثم جيل العشرية الأولى والعشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، على مدى هذين الجيلين تعرّض اللبنانيون لعملية استحواذ أو كما يُقال باللغة العامية تعرّضوا لعملية “أكل رأس” مضمونها أن التعاطف مع القضية الفلسطينية مشروط في لبنان بالدعم العسكري أساسا حتى لو كان هذا الدعم، وهو كذلك، يفوق قدرة لبنان كدولة وككيان، ويذهب به إلى دمار محتّم (ومحقّق كما نرى). كان جيلي في السبعينات شريكا في هذه الجريمة، تدمير لبنان. كان الذين اعترضوا على الخيار العسكري هذا على حق. لكن مع الأسف أخَذَ هذا الاعتراضُ، الذي ثبتت صحّته، طابع الانقسام الطائفي الواضح فاندلعت الحرب الأهلية ووُلِد من هذا الاعتراض الصائب مع تقدم الوقت أخطاء متتالية كالجريمة المتمادية في القانون لكن هنا نحن أمام “فضيلة متمادية”إذا جاز التعبير وعكسنا المضمون.
تكرر هذا “الأكل رأس” في جيل ثان هو جيل ما بعد العام ألفين وبطريقة أقل إقناعًا بسبب اتصاله الواضح بطموحات إقليمية جديدة وليس بالقضية الفلسطينية التي كان معظم ضحاياها في الداخل ، وهم الفلسطينيّون، قد انتهجوا منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 خيار المقاومة المدنية السلمية للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي ولنظام التمييز العنصري الذي نشأ منه وتبلور بعدما تمكّن اليمين العنصري الإسرائيلي من ضرب الخيار السلمي الذي نشأ في اتفاق أوسلو بقيادة ياسر عرفات.
كنتُ أشعر منذ زمن طويل أننا مقبلون على نكبة. عديدون تنبأوا بهذه النكبة التي نحن في وسطها الآن، في وسط شوارعها المحاطة بالدمار والخراب. في الأشهر الأخيرة توقفتُ عن الكتابة في “السياسة” اللبنانية لأنها أصبحت محاصَرة بكمية لا تُطاق من التبجح والرعونة وخصوصا التلفزيونية على أفواه مجموعة من الأبواق. لم يعد للكلام جدوى ولم يعد له معنى سوى انتظار حدوث النكبة وقد حدثت. كان التوجه لجهة لبنانية لا قيمة عملية له. هكذا اعتقدت وأستطيع القول أن هذا -اللاتوجه- ثبتت صحته المطلقة. المقال “الأخير” الذي كتبته في الشأن اللبناني(23-12-2023) وجّهته للسيد علي خامنئي تحت العنوان الحرفي التالي: “إلى السيد علي خامنئي: اللبنانيون لا يريدون الحرب فلا تفرضوها عليهم”.
ما أجمل لبنان وكم هو قويٌ في أن يسلك خيار الدعم المدني الثقافي الإعلامي السياسي للقضية الفلسطينية بجامعاته ومدارسه وصحافته وإعلامه وهيئاته المدنية الراسخة وهي لا تزال الأقوى في الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي،وما أضعفه في الدعم العسكري وكم هو هش وهزيل وعبثي وانتحاري وتدميري في هذا الدعم العسكري.
نحن في قلب النكبة التي لم تنتهِ بعد. ليس فقط من جهة إسرائيل، بل أيضا من جهة استمرار المكابرة والتبجح الذي لا يستحي أمام آلاف الضحايا ومئات آلاف المشردين. وكم أعجبني لجوء بعض المعلقين الشباب الشجعان إلى نقد الفكر الغيبي المتخلف المسؤول عن النكبة.
لبنان كان بلدا وصار حلما أو هو بلد جهيض الحلم. البلد الوحيد على الأرجح في العالم الذي تأسّس عام 1920 من شبكة مدارس وجامعتين لا تزالان الأهم في الشرق الأوسط. لماذا نتركه دائما عرضة لمجازفات أو عرضة لتفلت منه مجازفات مدمِّرة؟
لا تنتهي الحالة التي كان لبنان عليها منذ سنوات إلا بنكبة …حصلت. كانت كل المعطيات اللادولتية ومعها سلاحها و أصواتها لا تنتهي إلا بنكبة. نكبة تضمنا إلى النكبات الكبرى في تاريخ منطقتنا. والرحمة للضحايا اللبنانيين. جميع الضحايا. الأموات والأحياء.
*نشر في جريدة النهار اللبنانية