كتب يقظان التقي*
تفاقم الوضع في ولاية الجزيرة في السودان بشكل خطير، إذ نفّذت قوات الدعم السريع هجوماً واسعاً على قرى المنطقة، ما خلّف عشرات القتلى ومئات المصابين، ودمّر البنية التحتية، كما خلّف قصصاً مرعبةً في بشاعتها، ما صعّب إيصال الإمدادات الطبّية والغذائية إلى المدنيين المُهجّرين.
يعاني السودان من أزمة عميقة في ظلّ لعبة السلطة، وما إليها وما فيها وما عليها، بالمعنى العسكري، وبأجساد الناس المتروكة في الأرض بصورها المرئية، في ظروف أشبه بالعبثية داخل حلبة الحرب، بوجوه التمزّق وقامات اليأس إلى حدود الزوال. ويتسبّب النزاع بدمارٍ شاملٍ وبتشريد الملايين، مع غياب أيّ تدخّل دولي فعّال لإيقاف التصعيد وتوفير الإغاثة.
لقد ميّزت المنظّمات والقادة والمنشورات الأكثر نفوذاً في العالم السودان والحرب المستمرّة فيه أوضاعاً كارثيةً، تتجاوز نقطة اللاعودة، في دارفور وكردفان والفاشر والخرطوم والجزيرة. ولا شيء يضمن سلامة المواطن من جرائم حرب وأعمال تطهير عرقي، في أوضاع تتّجه نحو "إبادة جماعية"، على غرار ما حدث في رواندا (1994)، وفق تحليل الأمم المتحدة لعوامل الخطر المتزايدة.
الظروف الصعبة على الأرض خارج ما يمكن أن تكون عليه الدولة الحديثة في ذلك الاجتماع العنفي العصياني وشوائب التحوّل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وقد قتل مئات الآلاف في أعمال العنف المرتبطة بالحرب، ونزح أكثر من ثمانية ملايين شخص، ويتزايد انتشار الجوع على نطاق واسع، وفق تقرير صادر عن خبراء معنيين من لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وقال الخبراء الأمميون إن نحو 97% من سكّان السودان يواجهون مستويات خطيرة من الجوع، داعين العالم (الغارق في حروب أوكرانيا وغزّة ولبنان) إلى الالتفات لـ"أكبر مجاعة في العصر الحديث".
في مطلع الألفية، كان هناك تفاؤل بأن العولمة ستجعل العالم مترابطاً؛ "جيران في عالم واحد". هذه الفكرة ارتكزت على تقدّم التكنولوجيا والتواصل السريع والتكامل الاقتصادي. وهو ما دفع بعضهم للاعتقاد بأن العالم سيصبح أكثر اتّحاداً وتعاوناً، فإذا به يستقيل إنسانياً من تلك الحروب، ويكتفي بالنصح والترشيد والتوصيف. أظهرت الأحداث في السودان أن هذا التقارب لا يضمن بالضرورة التضامن الحقيقي، ويكشف انقسامات عميقة، في حين أن المطلوب الاشتغال على استجابة المجتمع الدولي لوقف النزاع وتحقيق شرعيّة الدولة. أي أن تكون مقبولةً من الجميع في صيغة نظامها وسياسات أهلها.
ينظر إلى السودان، واحداً من مناطق الصراع، باعتباره قضيةً خاسرةً في توفير الأمن الإنساني، وغالباً ما يستخدم التصنيف للإشارة إلى عدم قدرة المجتمع الدولي على تخفيف احتكار العسكر للسلطة، وتسييس الهُويَّات الجزئية والإثنية، من دون نسيان الإشارة إلى الاختلاف في هذا الأمر بين الخطابات والسياسات الإقليمية والدولية. هذا الخطاب القدري يديم الأساطير الضارّة، ويشوّه واقع الصراع، ويمنع التقدّم الحقيقي في وقف الأحداث، ولا يساهم في قضايا حوكمة الأمور ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم. فيعامل السودان دولةً مهجورةً بلا أمل في ضمان الحقوق المدنية وتطبيق مدونات القوانين والإجراءات التي تشكّل حكم القانون القابل للفرض. وتستمرّ الأحوال والعجز الموصوف في السماح للكيانات الدولية بإعفاء نفسها من اللوم والارتباط بالصراع.
الصراع على السلطة بين القوّات المسلّحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ترك المواطنين السودانيين (في الداخل والخارج) يائسين في مواجهة خطر القبلية المنشئة للعصبية، وخطر الموت والمرض والمجاعة والفقر واليأس والبطالة. يقاتل حميدتي بقواته بشراسة حتى يصل إلى الحفاظ على وجوده، وعلى الحدّ الأدنى من مصالحه الاقتصادية، في حالة انفعالية تثير مخاوفَ حول مستقبل وحدة البلاد، وفرض سلطة الأمر الواقع في تقسيم البلد إلى دويلات (تكرار تجربة انفصال جنوب السودان العام 2011)، فيفقد بعضاً من حلفائه السياسيين والعسكريين في مراجعات إقليمية، في ما يخصّ رؤيتها لمدى صلاحية قواته في تعاملها مع المدنيين، خصوصاً بعد حوادث "الجزيرة"، وسط عدم القدرة على تفسير أو تبرير ذلك. في المقابل تقدّم الجيش السوداني لا يسير على وتيرة واحدة في قيامه بمهامه المنوط بها وقف الخسائر المتعاظمة للمدنيين في أمنهم وممتلكاتهم وأعراضهم وأوضاعهم المعيشية المتردّية. لا يمثّل الطرفَان كلاهما مشروعاً سياسياً، مع تغييب المعارضة والبنى الشرعية والدستورية من الساحة السياسية، ومن عملية بناء عقد اجتماعي جديد. لذلك، فرصة وقف الحرب بعيدة المنال، وهي تتطلّب تعدّدية سياسية وفاعلية دولية وإقليمية ما زالت مفقودةً.
قادت أميركا مفاوضات غير ناجحة إلى جانب السعودية، هدفت إلى استئناف محادثات السلام بين الأطراف المتحاربة، نظراً لأن "الأزمة تتّجه إلى نقطة اللاعودة". المناقشات الدولية التي جعلت التوصل إلى حلّ سلمي يبدو مستحيلاً، عزّزت جهود الدعاية الداخلية من طرفَي النزاع في رفض المطالبات بوقف إطلاق النار، وجهود حفظ السلام التي تبذلها كيانات دولية، بما فيها الكتلة الإقليمية لدول شرق آسيا. ويُستخدم العنف المستمرّ مبرّراً لحملات عسكرية وإطالة أمد الحرب، ويؤثّر في الاستجابات الحديثة وبالضغط لاختبار جانب من الرعاة الأجانب (بما في ذلك دولة الإمارات وروسيا). هم ليسوا حاضرين في المحادثات، لكنّهم يتحمّلون المسؤولية من خلال فرض العقوبات الاقتصادية والمساعدة في جهود التحوّل السياسي. وفيما تثير أوساطٌ الخوفَ من خلال تحذيرها من "عودة العناصر المتطرّفة" (المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيربيلو)، إشارة إلى الدعم الإيراني للقوّات المسلّحة السودانية في ساحة معركة بوكالة في المنطقة، في هذه الحالة، تسحب واشنطن التركيز على التهديدات الإنسانية المتزايدة على الأرض، وتركّز المحادثات على المناقشات الجيوسياسية، ما يؤدّي إلى إهمال الأسباب الجذرية للصراع بشأن التحوّل الديمقراطي وبناء المؤسّسات، وعلى ما يتوق إليه الشعب السوداني من فُتات الخبز ومظاهر الأمن والاستقرار.
يستحقّ السودان اهتمام العالم، ومن غير الملائم تطبيق مفهوم الدولة الفاشلة على الحالة السودانية بعد الانتفاضة الشعبية السلمية لقوى المعارضة في الشمال، والمقاييس الأمنية الصلبة، وأعداد الجيش والشرطة، واستخراج النفط، وحشد العامل الديني، والتعامل الإيجابي مع هزّة انفصال الجنوب. وصف الصراع بأنه ميؤوس منه يسمح للمجتمع الدولي باللامبالاة، ما يجعل محاولات تعزيز أيّ حلٍّ، والصمود، واستبعاد الانهيار الشامل، أقل احتمالاً بكثير. فيبتعد الأمل في إعادة الإعمار المدني مع تضاؤل الاهتمام الدولي لفترات طويلة. وكيف يمكن مناقشة الحقائق القاسية في ظلّ استبعاد الأمل في مستقبل أفضل؟
غالباً ما تظهر المنظّمات المدنية بأدوار مهمة، إذ بذلت مجموعات داخل السودان وخارجه جهوداً لجمع الأموال، واستخدمت مهاراتها لاستهداف قطاعات مُحدَّدة، سواء جمعية الأطباء السودانيين، أو جمعية الرعاية الصحية، أو الجمعيات الملتزمة بالتعليم. لا ينبغي أن يقع العبء على عاتق السودانيين وحدهم وهم في حالة سيئة جدّاً. تمويل الأمم المتحدة أقلّ من الهدف المُقترَح، وواجه برنامج الأغذية العالمي تأخيراً في تسليم المساعدات والإمدادات الغذائية، ثمّ توقفها مع إجلاء معظم منظّمات الإغاثة ونهب المستشفيات والمتاجر. المداولات المُقترَحة للآن عقيمة أو بعيدة المنال، في ظلّ الصراع المستمر، وقبل أن يجلس القادة العسكريون على المقعد الخلفي، ويسلموا البلد للذين لديهم الطاقة على اختبار السلم والبناء والتطلّعات والآمال.
*نشر في العربي الجديد