تُعتبر عودة دونالد ترامب إلى الساحة الاقتصادية العالمية بعد أربع سنوات من غيابه تحولاً جذرياً يحمل تداعيات عميقة على العديد من الجبهات الاقتصادية والمالية الدولية. فرغم غيابه عن المشهد السياسي بعد خسارته في انتخابات 2020، إلا أن تأثيره على الأسواق العالمية والسياسات الاقتصادية لم يختف تماماً. ومع عودته في 2024، يفتح الباب أمام مجموعة من التحديات والفرص الجديدة التي من شأنها إعادة تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي.
هذه العودة قد تكون نقطة فارقة في توجيه السياسات الاقتصادية الدولية، مع تأثيرات محتملة على العلاقات التجارية، وأسواق المال، والمبادرات الاقتصادية الكبرى، مما يزيد من تعقيد وتنوع المشهد الاقتصادي العالمي. فعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي شهدها العالم في غياب ترامب، يبقى تركيزه على تعزيز المصالح الاقتصادية الداخلية للولايات المتحدة هو محور سياساته. فالرئيس الجمهوري، المعروف بتوجهاته الاقتصادية الحمائية، يسعى إلى تقليص الاعتماد على التجارة الدولية لصالح تعزيز الاقتصاد الأميركي، ما قد يخلق تحديات كبيرة على مختلف الأصعدة، بدءًا من التجارة الدولية، مرورًا بتداعيات السياسات المالية والنقدية، وصولًا إلى تأثيرات على أسواق الطاقة العالمية.
تراجع أسعار الذهب
بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، شهدت العقود الآجلة للذهب تراجعاً ملحوظاً بنحو 3 في المئة، حيث انخفض سعر الأوقية إلى 2673 دولاراً. وبذلك، فقد المعدن الثمين نحو 5 في المئة من قيمته منذ أن بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق عند 2805 دولارات في الأسبوع الماضي.
يعود هذا التراجع إلى القلق المتزايد بشأن السياسات الاقتصادية التي قد يتم طرحها ، والتي يُخشى أن تُعيد إشعال موجة التضخم. هذه المخاوف دفعت إلى ارتفاع عائدات السندات وزيادة قوة الدولار الأميركي، مما جعل الذهب أقل جاذبية للمستثمرين. إذ أن هناك علاقة سلبية تقليدية بين سعر الذهب وقوة الدولار، ما يعني أن استمرار ارتفاع الدولار قد يضغط على أسعار الذهب في الأجل القريب.
مع ذلك، يظل الذهب يعتبر من الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها المستثمرون في أوقات عدم اليقين السياسي والاقتصادي. فإذا شهد الاقتصاد العالمي اضطرابات نتيجة للسياسات الحمائية التي قد يعززها ترامب، أو بسبب تصاعد التوترات التجارية، فمن المرجح أن يرتفع الطلب على الذهب كأداة تحوط ضد المخاطر الاقتصادية. هذا قد يؤدي إلى زيادة في سعره في حال استمرار حالة عدم الاستقرار العالمي، مما يعزز من جاذبيته كاستثمار آمن في ظل الظروف الغامضة والمتقلبة.
بتكوين.. قفزة قياسية
بالتزامن مع إعلان النتائج الرئاسية، شهدت العملة الرقمية "البتكوين" ارتفاعاً قياسياً غير مسبوق في قيمتها السوقية بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024. حيث قفزت البتكوين بنحو 8 في المئة في التداولات المبكرة، متجاوزة مستوى 75,000 دولار، محطمةً الرقم القياسي السابق الذي تم تسجيله في آذار/مارس من العام نفسه.
على الرغم من أن ترامب كان قد أبدى في السابق تشككًا في العملات المشفرة، فإنه قد غيّر موقفه مؤخراً وبدأ ينظر إليها بشكل أكثر إيجابية قبيل الانتخابات. إذ تعهد بتحويل الولايات المتحدة إلى "عاصمة العملات المشفرة في العالم" وإقامة "احتياطي استراتيجي" من البتكوين. هذه التحولات في المواقف كانت بمثابة دفعة قوية للعملات المشفرة، وخاصة البتكوين، في ضوء التوجهات السياسية الجديدة.
تشير توقعات مؤسسة "ستاندرد تشارترد" إلى أن سعر البتكوين قد يصل إلى 125 ألف دولار بنهاية العام الجاري في حال تم تنفيذ السياسات الاقتصادية المعلنة من قبل ترامب. وفي حال اتخاذ إجراءات إضافية لتعزيز اعتماد العملات الرقمية على نطاق أوسع، قد يرتفع سعر البتكوين إلى 150 ألف دولار، مما يعكس ثقة السوق المتزايدة في العملات المشفرة كأداة مالية قوية في المستقبل القريب.
النفط والمخاطر المتصاعدة
من المتوقع أن يؤديا عاملان رئيسيان إلى هبوط أسعار النفط بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. العامل الأول هو تعهده باستئناف التنقيب عن النفط والغاز في كامل الأراضي الأميركية. ضمن سياسته، يعتزم ترامب استئناف عمليات التنقيب عن النفط والغاز بشكل واسع النطاق، بما في ذلك إصدار تراخيص جديدة لاستكشاف الموارد الطبيعية، إلى جانب إيقاف مشاريع طاقة الرياح البحرية التي يصفها بأنها "تضر" بالحيتان والطيور. هذا التوجه سيبدأ "من اليوم الأول" في البيت الأبيض، ويهدف إلى استغلال ثروات الطاقة التقليدية في الولايات المتحدة لتخفيض أسعار الوقود في الأسواق المحلية. وتهدف هذه السياسات إلى خفض تكاليف الوقود، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على تكلفة إنتاج آلاف السلع الأساسية، وبالتالي تقليل الأسعار بالنسبة للمستهلك النهائي.
إذا نجحت هذه السياسات في زيادة إنتاج النفط المحلي بشكل كبير، فإن ذلك قد يتسبب في ضغط قوي على أسعار النفط العالمية نتيجة لزيادة المعروض في السوق. وقد تضر هذه الزيادة في العرض بالدول المصدرة للنفط، خاصة تلك التي تعتمد بشكل رئيسي على دخل النفط مثل دول "أوبك. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي انخفاض الأسعار إلى تراجع الإيرادات النفطية لهذه البلدان، ما قد ينعكس سلباً على اقتصاداتها ويزيد من التحديات المالية التي تواجهها في تمويل مشروعات التنمية والبنية التحتية.
أما العامل الثاني فهو الحرب التجارية المتوقعة مع الصين، التي من المرجح أن تؤدي إلى تقليص الطلب على النفط، نتيجة لتأثير قوة الدولار الأميركي. فالدولار القوي يزيد من تكلفة شراء النفط بالنسبة للدول المستوردة، إذ ستحتاج هذه الدول إلى مزيد من عملاتها المحلية للحصول على الدولار اللازم لتسديد فاتورة وارداتها النفطية. وبالتالي، فإن هذه الزيادة في تكلفة الواردات النفطية ستُترجم في النهاية إلى تكاليف إضافية يتحملها المستهلك النهائي. ومع صعود الدولار، يتراجع الطلب العالمي على النفط الخام، وهو ما يؤدي بدوره إلى انخفاض أسعاره. ومع تباطؤ الطلب على النفط كأحد مكونات الإنتاج العالمي، من المتوقع أن تشهد أسواق النفط مزيداً من التراجع في الأسعار.
من ناحية أخرى، تبرز مخاوف من أن يلجأ ترامب إلى فرض مزيد من العقوبات على الدول المنتجة للنفط، مثل فنزويلا وإيران، وهو ما قد يؤدي إلى تقليص إمدادات النفط العالمية، وبالتالي يساهم في دفع الأسعار نحو الارتفاع.
تقلبات سوق العقارات
فوز الرئيس الجمهوري في الانتخابات قد يفضي إلى تأثيرات معقدة ومتعددة على سوق العقارات، وفقاً للسياسات الاقتصادية والنقدية التي سيعتمدها:
الطلب المحلي: في حال تبني دونالد ترامب سياسات توسعية تشمل تخفيضات ضريبية كبيرة وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية، فمن المرجح أن يعزز ذلك الطلب على العقارات في الولايات المتحدة، وخاصة في المناطق الحضرية والمدن الكبرى. هذا الانتعاش في الطلب قد يدفع أسعار العقارات إلى الارتفاع، إذ سيؤدي إلى زيادة حركة الشراء، سواء للمنازل أو للعقارات التجارية.
- أسعار الفائدة: إذا لجأ ترامب إلى الضغط على الاحتياطي الفيدرالي للإبقاء على معدلات الفائدة منخفضة، فإن ذلك سيقلل من تكلفة القروض العقارية، مما يحفز المزيد من الأشخاص على شراء المنازل والاستثمار في العقارات. ولكن في حال تغيّرت السياسات وارتفعت معدلات الفائدة، فإن تكلفة الاقتراض سترتفع، مما قد يحد من قدرة المستهلكين على تحمل القروض العقارية، وبالتالي قد يؤدي إلى تباطؤ في نشاط سوق العقارات.
- التأثير على الأسواق العالمية: السياسات الحمائية التي قد يتبناها ترامب، بالإضافة إلى تركيزه على تعزيز الاقتصاد الأميركي على حساب الاقتصاد العالمي، قد تتسبب في تباطؤ في بعض الاقتصادات الناشئة، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على الطلب على العقارات في تلك الأسواق. إضافة إلى ذلك، إذا شهدت الأسواق العالمية تقلبات في قيمة الدولار أو زيادة في تكاليف الاقتراض بسبب السياسة النقدية الأميركية، فإن ذلك قد يثقل كاهل الدول التي تعتمد على التمويل الخارجي، مما يؤدي إلى تراجع في الطلب على العقارات في تلك المناطق.
بشكل عام، قد تخلق سياسات ترامب الاقتصادية بيئة مواتية لدعم نمو سوق العقارات المحلي في الولايات المتحدة، لكن تأثيراتها على الأسواق العالمية قد تكون متباينة، حيث يمكن أن تقلص الاستثمارات العقارية في بعض الأسواق الخارجية بسبب الضغوط الناجمة عن التقلبات الاقتصادية وارتفاع تكاليف الاقتراض.
الحمائية و الدول النامية
من المتوقع أن تنعكس السياسات الحمائية التي قد يتبناها الرئيس الجمهوري سلباً على الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الولايات المتحدة. إذ قد تشهد هذه الدول انخفاضاً في حجم صادراتها بسبب الرسوم الجمركية والقيود التجارية الأخرى التي قد يفرضها ترامب، ما سيزيد من الضغوط على اقتصاداتها.
كما أنّ التقلبات في أسعار الفائدة الناتجة عن السياسة النقدية الأميركية قد تخلق بيئة مالية غير مستقرة لهذه الدول، لا سيما تلك التي تعتمد على التمويل الخارجي لدعم اقتصاداتها أو تمويل مشروعات التنمية والبنية التحتية. إذا ارتفعت أسعار الفائدة الأميركية، فمن المرجح أن ترتفع تكاليف خدمة الديون لهذه الدول، مما سيزيد من تعقيد الأزمات الاقتصادية فيها ويصعب عليها الوفاء بالتزاماتها المالية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فرض رسوم جمركية على الصين قد يكون له تأثيرات عالمية واسعة، حيث أعلن أنه سيطبق رسوماً تصل إلى 200 في المئة على واردات السيارات المكسيكية. يتوقع المحللون أن يؤدي هذا الأمر إلى تراجع كبير في قيمة البيزو المكسيكي، وربما يصل إلى أكثر من 21 مقابل الدولار، وهو مستوى لم تشهده العملة المكسيكية منذ أكثر من عامين. هذا التراجع في قيمة العملة المحلية قد يفاقم الضغوط التضخمية ويزيد من التحديات التي تواجه الاقتصاد المكسيكي والدول النامية الأخرى التي ترتبط تجارياً مع الولايات المتحدة.
ترامب والحروب التجارية
يُعرف دونالد ترمب بتبني سياسات حمائية متشددة، وهو ما يتجسد بشكل واضح في فرض رسوم جمركية مرتفعة على واردات السلع، خاصة من الصين والاتحاد الأوروبي، في محاولة لحماية الصناعات الأميركية وتعزيز الإنتاج المحلي. ويُروج ترمب لفرض تعريفات جمركية تصل إلى 20 في المئة على جميع الواردات التي تبلغ قيمتها 3.5 تريليون دولار، بالإضافة إلى زيادة تصل إلى 60 في المئة على السلع الصينية.
هذه السياسات قد تؤدي إلى تصعيد الحروب التجارية بين الولايات المتحدة وأكبر اقتصادات العالم، وبالتالي خلق بيئة اقتصادية غير مستقرة ويزيد من التوترات التجارية العالمية. فعلى سبيل المثال، إذا استمرت الحرب التجارية مع الصين، فإن ذلك قد يعرّض سلاسل التوريد العالمية لاضطرابات كبيرة، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج على الصعيد العالمي. كما قد يؤثر ذلك سلباً على توافر بعض السلع الأساسية مثل الإلكترونيات والأدوية، مما ينعكس على الأسعار ويزيد من العبء على المستهلكين في جميع أنحاء العالم.