بيروت- الاقتصاد والأعمال
منذ 23 أيلول/سبتمبر، يعيش لبنان تحت وطأة حرب ضارية لا تزال مستمرة حتى اليوم، مما يضعه في مواجهة تحديات غير مسبوقة في تاريخه المعاصر. وعند مقارنة هذه الحرب بالحروب التي مر بها الوطن منذ نيله الاستقلال عام 1943، وبالأخص تلك الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975، يتبين بوضوح أن الصراع الحالي سيُسجل كأحد أكثر الأحداث دموية في تاريخ لبنان الحديث.
ومع استمرار التصعيد، تواصل حصيلة الضحايا في الارتفاع بشكل مأساوي، حيث تجاوز عدد الشهداء عتبة الثلاثة آلاف، فيما تخطى عدد الجرحى 13 ألفاً مما يعكس عمق الدمار والخراب الذي يعيشه الشعب اللبناني يومياً. في الوقت ذاته، تزداد المخاوف من أن العدوان الإسرائيلي يهدف إلى تدمير البلدات الحدودية وتحويلها إلى منطقة عازلة لضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية، مع السعي لإعاقة إعادة إعمارها حتى بعد وقف إطلاق النار.
الرياض وباريس .. دعم مستمر
وفي خضم هذا الجحيم الذي يفتقد لكل ضوابط الإنسانية، انعقدت القمة العربية-الإسلامية المشتركة في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي في الرياض. وأعلن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في الكلمة الافتتاحية أن القمة تأتي "امتداداً للقمة المشتركة السابقة في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية الآثمة على الشعب الفلسطيني الشقيق واتساع نطاق تلك الاعتداءات لتطال الجمهورية اللبنانية الشقيقة". وأضاف ولي العهد: "نعرب عن ادانتنا العميقة للعمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت الأراضي اللبنانية، ونرفض تهديد أمن لبنان واستقراره، وانتهاك سلامته الإقليمية وتهجير مواطنيه"، مؤكداً على "ضرورة الحفاظ على سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها".
ثم جاءت كلمة لبنان التي ألقاها رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، حيث أعلن عن حجم الكارثة التي لا تزال تحل بلبنان جراء العدوان الإسرائيلي. وأشار إلى أن العدوان قد "أجبر نحو مليون ومئتي ألف لبناني على النزوح في غضون ساعات معدودة". وأضاف رئيس الحكومة: "وفقاً لتقديرات البنك الدولي الأخيرة، بلغت الأضرار والخسائر المادية حتى اليوم ثمانية مليارات ونصف مليار دولار، منها ثلاثة مليارات واربعمئة مليون دولار تتعلق بتدمير كلي أو جزئي لنحو مئة ألف مسكن، بينما بلغت الخسائر الاقتصادية خمسة مليارات ومئة مليون دولار، تشمل قطاعات التربية والصحة والزراعة والبيئة وغيرها."
في ظل هذه المرحلة المأساوية، أشار الباحث محمد شمس الدين من "الشركة الدولية للمعلومات" إلى أن نحو 29 قرية ومدينة على طول 120 كيلومتراً من الناقورة إلى شبعا قد دُمّرت بشكل شبه كامل، مُضيفاً أن عدد الوحدات السكنية المدمّرة في هذه المناطق يصل إلى نحو 25 ألف وحدة. في هذا الإطار، تم إنشاء مراكز لمواجهة تداعيات الحرب، مثل مركز عمليات طوارئ الصحة العامة التابع لوزارة الصحة ولجنة الطوارئ الحكومية المختصة بالنزوح. وتعمل المؤسسات الرسمية والخاصة بجدية لتلبية احتياجات الحرب الطارئة، من بينها إغاثة مئات الآلاف من النازحين، إضافة إلى استئناف التعليم وعودة الطلبة إلى مقاعد الدراسة في مختلف المراحل التعليمية.
كيف يمكن النهوض بكل هذه الأعباء في بلد كان قبل الحرب يصارع أكبر الأزمات الاقتصادية والمعيشية والمالية في تاريخه منذ عام 2019، فجاءت الحرب بكل تداعياتها لتعيده إلى الهاوية التي كان يحاول الخروج منها بلا هوادة؟
الجواب الأول جاء في 24 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث عقد مؤتمر دولي في باريس لدعم لبنان، بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وشارك فيه الدول الشريكة للبنان والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية والمجتمع المدني. أسفر المؤتمر عن جمع مساعدات إنسانية بقيمة 800 مليون دولار، بالإضافة إلى 200 مليون دولار لدعم قوات الأمن، ليصل إجمالي المساعدات إلى نحو مليار دولار، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 300 مليون دولار منها. وفي كلمته أمام المؤتمر، أكد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن الأزمة الحالية في لبنان غير مسبوقة، مشيراً إلى أن الهجوم الإسرائيلي ألحق أضراراً هائلة بالبنية التحتية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي، داعيًا المجتمع الدولي للتحرك العاجل لمواجهة هذه الكارثة الإنسانية.
وبحسب الخبراء، تكمن المهمة الملحة اليوم في كيفية تمكين شركات القطاع الخاص من الصمود، خصوصاً بعد أن فقدت معظمها مقومات الاستمرارية. وأكد هؤلاء الخبراء على ضرورة البدء في تحضير استراتيجيات وخطط لإعادة الإعمار، مشيرين إلى أن اللبنانيين والمستثمرين والمبتكرين باتوا مرهقين من عملية الإعمار المستمرة. ومع ذلك، يشددون على ضرورة التوصل إلى رؤية موحدة وبناء أسس قوية لإعادة الإعمار بشكل مستدام. كما تساءل الخبراء عن الطرق الممكنة لدعم الشركات في مواجهة تداعيات الحرب المستمرة، التي يعتقدون أنها ستطول. وأوصوا المنظمات الدولية ليس فقط بتقديم مساعدات إنسانية، بل أيضاً بإنشاء صندوق استثماري لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل 90 في المئة من السوق المحلية، حيث تدفع هذه الشركات ثمناً باهظاً جراء الحرب.
تحذيرات ومخاطر اقتصادية
في الوقت ذاته، لا تزال التقارير الأممية والدولية تحذر من تفاقم الوضع في لبنان. فقد أعلن صندوق النقد الدولي أن لبنان سيحتاج إلى عقود للتعافي من الصراعات الحالية، بعد خفض توقعات النمو في المنطقة، محذرًا من أن الحرب سيكون لها آثار دائمة على الاقتصاد. كما أشار تقرير محدث صادر عن "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" إلى أن التداعيات الاقتصادية ستستمر لسنوات، حتى في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار قبل نهاية العام، مع توقعات بتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.28 في المئة في العام المقبل، وبنسبة 2.43 في المئة عام 2026، إلى جانب انخفاض إيرادات الحكومة بنسبة 9 في المئة وتراجع الاستثمارات بأكثر من 6 في المئة خلال العامين المقبلين. وذكر التقرير أيضًا أن البطالة ستزداد بشكل كبير في العام الحالي، مما سيؤدي إلى خسارة العديد من الوظائف ونزوح اقتصادي، خصوصاً مع تراجع الطلب على العمالة في مختلف القطاعات. وأكد أن الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل نحو 90 في المئة من الاقتصاد اللبناني ستتأثر بشكل كبير، حيث اضطرت بعض هذه الشركات إلى إغلاق أبوابها أو تعليق أنشطتها بشكل غير محدد.
في تقرير جديد صادر عن البنك الدولي، أظهر التقييم الأولي للأضرار والخسائر في لبنان أن تكلفة الأضرار المادية والخسائر الاقتصادية الناتجة عن الصراع بلغت نحو 8.5 مليار دولار أميركي. وقد توزع هذا المجموع بين 3.4 مليار دولار أضراراً مادية و5.1 مليار دولار خسائر اقتصادية. كما أشار التقرير إلى أن الصراع خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة 6.6 في المئة في عام 2024، مما يزيد من تفاقم الانكماش الاقتصادي الحاد الذي استمر لمدة خمس سنوات، والذي تجاوز 34 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفيما يخص تأثير الصراع على الشعب اللبناني، ذكر التقرير أن أكثر من 875 ألف شخص نزحوا داخلياً، مع تعرض الفئات الأكثر ضعفاً مثل النساء والأطفال والمسنين للخطر. كما فقد نحو 166 ألف شخص وظائفهم، مما نتج عنه انخفاض في المداخيل قدره 168 مليون دولار. وفيما يتعلق بالقطاعات الاقتصادية، تضرر قطاع الإسكان بشكل كبير، حيث تأثرت نحو 100 ألف وحدة سكنية بتكلفة بلغت 3.2 مليار دولار، كما تعرض قطاع التجارة لاضطرابات بلغت نحو ملياري دولار. وتعرض قطاع الزراعة لخسائر تقدر بنحو 1.2 مليار دولار نتيجة لتدمير المحاصيل والماشية وتشريد المزارعين.
في ظل التحذيرات الدولية المستمرة، أظهرت المؤشرات الاقتصادية في لبنان تدهوراً حاداً بعد شهر من العدوان الإسرائيلي، حيث تشير التقديرات إلى ركود شبه تام في الأنشطة الاقتصادية. قطاع السياحة، الذي يدر نحو 4-5 مليارات دولار سنوياً، سجل خسائر كبيرة في الموسم الصيفي، مع توقعات بتفاقم الأوضاع في موسم الأعياد. كما شهدت الأنشطة التجارية تراجعاً بنسبة 80-90 في المئة باستثناء المواد الغذائية ومواد التنظيف، في حين تراجع القطاع الزراعي بنحو 40 في المئة مع تهديدات بخسارة محاصيل أساسية. أما القطاع الصناعي فقد انخفض نشاطه بنسبة 50 في المئة بسبب توقف 30 في المئة من المصانع في المناطق المتأثرة بالصراع، وتراجع الطلب المحلي والخارجي. كما تضررت قطاعات الفنادق والمطاعم وتأجير السيارات بشكل كبير، حيث بلغ انكماشها نحو 90 في المئة مع إغلاق مئات المؤسسات في مناطق العمليات العسكرية.
الحرب ومعاناة القطاعات
على الصعيد الصحي، أكد وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال، فراس الأبيض، صعوبة تحديد حجم الأضرار المالية التي لحقت بمؤسسات الوزارة جراء العدوان الإسرائيلي، مشيراً إلى تزايد الأضرار يوماً بعد يوم وتضرر العديد من المستشفيات والمراكز الصحية، بالإضافة إلى سقوط شهداء من العاملين في القطاع الصحي. وأكد الأبيض ضرورة إجراء مسح لتحديد الأضرار والتكاليف، لافتاً إلى أن الأولوية حالياً هي لتلبية احتياجات النازحين. كما أشار إلى أن المبلغ اللازم لتغطية النفقات الصحية في الأشهر الستة المقبلة يقدر بنحو 120 مليون دولار، في الوقت الذي يتصاعد فيه عدد النازحين، وهو ما تم طرحه في مؤتمر باريس الدولي لدعم لبنان.
فيما يتعلق بالإغاثة، أشار منسق لجنة الطوارئ الحكومية، وزير البيئة ناصر ياسين، إلى أن المساعدات الإغاثية والغذائية التي وصلت إلى لبنان حتى اليوم تقدر بنحو 10 آلاف طن، وتُوزع عبر المنظمات الدولية والجمعيات بالتعاون مع اللجنة الوزارية والمحافظات. وأوضحت اللجنة أن المساعدات العينية التي تم استلامها حتى الآن، والتي تشمل مساعدات من الدول العربية والصديقة مثل الإمارات وقطر والسعودية وتركيا ومصر وباكستان وروسيا، لا تتجاوز 10 إلى 15 في المئة من الاحتياجات الفعلية المطلوبة في لبنان.
وفي القطاع التربوي، بدأت وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان تنفيذ خطة لإعادة نحو 387 ألف طفل إلى المدارس بشكل تدريجي، بما في ذلك الأطفال الذين يعيشون في مراكز الإيواء والمجتمعات المضيفة. هذه المبادرة هي جزء من خطة الاستجابة للطوارئ التي تهدف إلى تشغيل 326 مدرسة رسمية لم تُستخدم لإيواء النازحين، وذلك لضمان استمرار التعليم لجميع الأطفال في سن الدراسة.
من جانبه، حذر ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في لبنان، إدوارد بيجبيدر، من التأثير المدمر للنزاع على الأطفال والمعلمين والمدارس، مشدداً على أن فقدان عام دراسي كامل قد يهدد رفاه الأطفال وسلامتهم وآفاقهم المستقبلية. وأشار بيان اليونيسف إلى أن الحرب المستمرة قد حولت حياة الأطفال في لبنان إلى كابوس، حيث يُقتل طفل واحد على الأقل يومياً منذ بداية تشرين الأول، بينما يعاني الآلاف من الأطفال الذين نجوا من القصف المستمر من ضغوط نفسية حادة جراء تصاعد العنف والفوضى من حولهم.
أمل رغم الجحيم
وفي خضم هذا الجحيم المستمر، يواصل اللبنانيون نضالهم بلا هوادة من أجل الحفاظ على استمرارية حياتهم في مختلف القطاعات، سواء في الصحة أو التربية أو الصناعة أو الزراعة أو التجارة، في تحدٍ يومي يقاسيه الشعب اللبناني. وفي بارقة أمل وسط هذا الواقع القاسي، يستعد العديد من اللبنانيين المقيمين في الخارج للعودة إلى وطنهم، أياً تكن الظروف، للاحتفال بالأعياد المجيدة مع عائلاتهم، ف في رسالة مليئة بالإصرار والعزيمة على الحياة.