د. وسام صافي*
الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل تُلقي بظلالها الثقيلة على لبنان، وتُفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد. تتخطى آثارها الكلفة العسكرية لتشمل خسائر ضخمة في البنية التحتية، وقطاعات الإنتاج، والنسيج الاجتماعي. كما أن التمويل المستمر لحزب الله من مصادر متنوعة، بعضها غير مشروع، يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي اللبناني، مما يضع البلاد في حلقة مفرغة من الدمار والإنهاك.
صراع متصاعد
من المفيد محاولة تقديم رؤية شاملة للكلفة العسكرية والمادية والاقتصادية، مع التركيز على انعكاساتها الاجتماعية والإنسانية، بهدف إيجاد الحلول المناسبة للتغلب على هذه المشاكل الجسيمة ورسم خطوط جديدة وواعدة لمسارات الدولة المالية والسياسية والاقتصادية.
شهدت المواجهات بين حزب الله وإسرائيل تغييرات جوهرية بين حرب تموز 2006 والحرب الحالية (2023-2024)، حيث انعكست تحولات عميقة في الأهداف والأساليب وحجم التأثيرات. في حرب 2006، كان الهدف الإسرائيلي المعلن هو تدمير البنية التحتية لحزب الله، تحرير الجنود الأسرى، وإبعاد الحزب عن الحدود، وذلك في سياق تطبيق قرار مجلس الأمن 1559. اعتمدت إسرائيل على القصف الجوي المكثف الذي استهدف البنية التحتية للبنان، مع عمليات برية محدودة. تكبّد لبنان حينها خسائر بشرية شملت نحو 900 قتيل وأكثر من 4000 جريح، بينما نزح نحو 600 ألف شخص. اقتصاديًا، قدّرت الخسائر بنحو 3.6 مليارات دولار، مع دمار كبير طال البنى التحتية. وعلى الرغم من ذلك، استطاع حزب الله تعزيز صورته كمدافع عن السيادة اللبنانية، ما أدى إلى زيادة نفوذه داخليًا وإقليميًا بدعم إيراني واضح، وسط تنديد دولي باستهداف المدنيين خلال القصف الإسرائيلي.
على النقيض، كانت الحرب الحالية أكثر دموية ودمارًا، حيث شهدت تصعيدًا في الأهداف والتكتيكات. تسعى إسرائيل إلى نزع سلاح حزب الله بالكامل وإبعاد وجوده العسكري عن الحدود، في إطار تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، مستفيدة من استخدام تكنولوجيا حديثة مثل الطائرات المسيرة وقصف جوي شامل تجاوز 12 ألف غارة، إلى جانب عمليات برية موسعة. أسفرت هذه الحرب عن زيادة كبيرة في الخسائر، حيث قتل أكثر من 4000 شخص وأصيب أكثر من 16 ألفًا، مع نزوح تجاوز 1.2 مليون شخص. بلغت الخسائر الاقتصادية أكثر من 10 مليارات دولار، شملت الأضرار البنية التحتية والقطاعات الاقتصادية الرئيسية، ما يجعلها أضعاف خسائر حرب 2006. كما توسعت الحرب لتشمل مناطق أبعد من الجنوب اللبناني، مما ضاعف معاناة المدنيين وأثر على الاقتصاد اللبناني بشكل غير مسبوق.
دوليًا، استمر الدعم الغربي لإسرائيل، إلا أنّ الانتقادات بسبب استهداف المدنيين والبنية التحتية كانت أعلى مقارنة بحرب 2006. إقليميًا، تعكس الحرب الحالية تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران عبر حلفائها، مع التركيز على تقليص نفوذ إيران في لبنان والمنطقة. داخليًا، تراجعت صورة حزب الله في بعض الأوساط اللبنانية، حيث يواجه الحزب انتقادات بسبب تأثيرات الحرب السلبية على المدنيين والاقتصاد. هذا التغير يُبرز الفرق الجوهري بين الحربين، حيث شهدت الحرب الحالية تصعيدًا أكبر وتأثيرات أكثر عمقًا على لبنان داخليًا وإقليميًا.
بالتالي، تعكس هذه الحروب استمرار الصراع بين حزب الله وإسرائيل، لكنها تشهد تصاعدًا في حدة الخسائر والتعقيدات، مما يضع لبنان أمام تحديات متزايدة قد تؤثر على مستقبله السياسي والاقتصادي.
الخسائر نتيجة الحرب الحالية
كارثة إنسانية مستمرة
تكشف الأرقام التي أوردتها وزارة الصحة اللبنانية عن حجم الكارثة الإنسانية، حيث تشير إلى الآلاف من الشهداء والجرحى نتيجة الصراع الأخير. ومع ذلك، تظل هذه الأرقام غير مكتملة، إذ يتكتّم حزب الله على نشر أعداد قتلاه، خصوصًا في المناطق الجنوبية والبقاعية التي شهدت أعنف المواجهات. تشير الإحصاءات الرسمية إلى أكثر من أربعة آلاف شهيد، لكن الواقع قد يكون أكبر نظرًا لتضارب المعلومات. تجاوز عدد الجرحى ستة عشر ألفًا، مما يثقل كاهل القطاع الصحي ويترك آثارًا اجتماعية واقتصادية دائمة. نزح الآلاف من قراهم نتيجة القصف والتدمير، مما أضاف أعباء إنسانية هائلة على المناطق المضيفة التي تعاني أصلًا من ضعف الخدمات.
خسائر مادية شاملة
أدّى تدمير الطرق والجسور وشبكات الكهرباء في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية إلى شلل شبه كامل في حركة التنقل والتجارة الداخلية. تُقدر الكلفة الأولية لإعادة الإعمار بأكثر من أربعة مليارات دولار، وهو رقم مرشح للزيادة مع استمرار العدوان. آلاف المنازل تضررت جزئيًا أو كليًا، مما أسفر عن تشريد آلاف العائلات. تُقدّر كلفة إعادة بناء هذه المنازل بنحو مليار ونصف مليار دولار، وهو مبلغ يفوق قدرات الحكومة اللبنانية الحالية. كما دُمرت مستشفيات ومدارس ومرافق عامة أخرى، مما زاد من أعباء الدولة. عطلت آلاف المؤسسات والشركات الخاصة، مما تسبب في خسائر اقتصادية فادحة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، تُقدّر بمليارات الدولارات.
الدمار الزراعي: تحديات الإصلاح
تكبّد لبنان خسائر اقتصادية وإنسانية جسيمة نتيجة تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مناطق مثل الجنوب والبقاع جراء القصف واستخدام الأسلحة الثقيلة. أدى ذلك إلى تلوث التربة والمياه الجوفية بفعل الأسلحة المستخدمة، مما يُعقد عملية استصلاح الأراضي. كما تضررت المحاصيل الزراعية بشكل كبير، مما أسفر عن تراجع الإنتاج الزراعي. تُقدّر خسائر الصادرات الزراعية بنحو 300 مليون دولار، وهو ما يُشكل ضربة كبيرة للاقتصاد الزراعي المحلي.
إصلاح القطاع الزراعي في لبنان بعد الدمار الذي لحق به نتيجة الحرب يتطلب خطة شاملة ومتعددة الجوانب. أولًا، يجب أن تُركز الجهود على استصلاح الأراضي من خلال إزالة التلوث الناتج عن الأسلحة أو المواد الكيميائية، باستخدام التقنيات الحديثة لمعالجة التربة الملوثة وتنظيف المياه الجوفية. ثانيًا، يجب العمل على إعادة تأهيل المحاصيل الزراعية من خلال دعم المزارعين المحليين بتوفير البذور والأسمدة الحديثة، بالإضافة إلى تدريبهم على أفضل الممارسات الزراعية، وتشجيعهم على استخدام تقنيات زراعية مستدامة لتحسين الإنتاجية وحماية البيئة.
كما يتطلب الأمر توفير التمويل والدعم الحكومي الفاعل، من خلال تقديم قروض ميسرة أو منح للمزارعين لإعادة بناء مزارعهم وتحسين تقنيات الزراعة. يجبب تخصيص ميزانيات حكومية خاصة لدعم القطاع الزراعي وتوفير البنية التحتية اللازمة مثل أنظمة الري الحديثة. علاوة على ذلك، من الضروري تحفيز الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية الحديثة مثل الزراعة المائية والزراعة الدقيقة، مما سيساهم في زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل.
من جانب آخر، يجب العمل على تنشيط الصادرات الزراعية عبر استعادة أسواق التصدير التقليدية وزيادة فرص تصدير المنتجات الزراعية اللبنانية إلى الأسواق الدولية. ويشمل ذلك التفاوض مع الدول المعنية لتخفيف القيود والرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات اللبنانية. وفي هذا السياق، سنبغي التعاون مع المنظمات الدولية للاستفادة من الدعم الدولي عبر التعاون مع المنظمات الزراعية العالمية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) للحصول على مساعدات مالية وتكنولوجية، بالإضافة إلى تعزيز قدرة مراكز البحث الزراعي في لبنان لإجراء دراسات تهدف إلى تطوير أصناف جديدة من المحاصيل مقاومة للأمراض والجفاف.
من خلال هذه الإجراءات الشاملة، يمكن للقطاع الزراعي اللبناني أن يستعيد جزءًا من قوته ويُعوّض الخسائر الكبيرة التي تكبّدها، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويوفر فرص عمل جديدة.
القطاع الصحي والدعم
لقد تسبّب استهداف المستشفيات والمراكز الطبية افي تعطيل الخدمات الصحية في العديد من المناطق، خاصة في الجنوب والبقاع. كما أسفر الحصار عن نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، مما زاد من الضغط على المستشفيات التي كانت تعاني أصلًا من الإنهاك. تُقدّر كلفة إصلاح القطاع الصحي بأكثر من سبعمئة مليون دولار، وتشمل هذه الكلفة إعادة بناء المستشفيات وتجهيزها بالمعدات الطبية اللازمة لتلبية الاحتياجات المتزايدة.
إصلاح هذا القطاع يتطلب وضع خطة شاملة لإعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الصحية المتضررة، إضافة إلى تحديث البنية التحتية الصحية لتتماشى مع المعايير الدولية. من الضروري توفير الأدوية والمعدات الطبية الحديثة لتغطية الاحتياجات المتزايدة ، مع تخصيص ميزانيات إضافية لدعم المرافق الطبية في المناطق الأكثر تضررًا.
كما يتطلب الأمر تأهيل العاملين في القطاع الصحي لتمكينهم من التعامل مع الأزمات بشكل أفضل، بالإضافة إلى استقطاب الكفاءات الطبية اللبنانية التي هاجرت إلى الخارج. من المهم أيضاً طلب الدعم من المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، لتوفير التمويل والخبرات اللازمة. علاوة على ذلك، ينبغي استثمار المساعدات الدولية في مشاريع صحية مستدامة تهدف إلى تعزيز قدرة النظام الصحي على مواجهة التحديات المستقبلية بشكل فعال.
السياحة اللبنانية: صعوبات وإيرادات
تضررت العديد من المناطق السياحية البارزة، مثل جنوب لبنان والبقاع، بشكل كبير، وتعطلت الرحلات السياحية بالكامل. أدت الحرب إلى تصنيف لبنان كدولة غير آمنة للسفر، مما تسبب في إلغاء الحجوزات السياحية من الداخل والخارج. كما شهدت السياحة الخارجية تراجعًا حادًا، لا سيما من دول الخليج وأوروبا، مما ألحق ضررًا كبيرًا بإيرادات العملات الأجنبية التي تُعد مصدرًا مهمًا لدعم الاقتصاد اللبناني.
إعادة تأهيل القطاع السياحي تتطلب ترميم المواقع الأثرية والطبيعية التي تضررت جراء الحرب، بالإضافة إلى إعادة بناء البنية التحتية السياحية مثل الفنادق والمرافق العامة. يمكن تحقيق ذلك من خلال إطلاق حملات ترويجية دولية تؤكد استقرار لبنان وتعزز ثقته كوجهة سياحية آمنة. كما يتطلب الأمر أيضًا التعاون مع شركات الطيران ووكالات السفر لتقديم عروض مشجعة لجذب السياح، وتنظيم مهرجانات ثقافية وسياحية تُبرز صورة لبنان الحضارية. كما يُوصى باستهداف أسواق سياحية جديدة في آسيا وأفريقيا لتعزيز التنوع في مصادر السياحة وزيادة الإيرادات.
نحو تعافٍ شامل
إن الخسائر التي تكبدها لبنان على الصعد البشرية والاقتصادية والاجتماعية تستدعي استجابة شاملة تتجاوز الحلول الترقيعية المؤقتة. من خلال إعادة بناء القطاعات الحيوية، مثل السياحة والصحة، يمكن للبنان أن يؤسس لمرحلة جديدة من التعافي، بعيدًا عن سياسات الاستنزاف والأزمات المتكررة.
الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل لا تقتصر على كونها نزاعًا عسكريًا فحسب، بل هي كارثة متعددة الأوجه تهدد مستقبل لبنان في مختلف المجالات. تأثيراتها تتجاوز الدمار المادي لتشمل استنزاف القطاعات الاقتصادية وتعميق الأزمات الاجتماعية والانسانية. كما أن تمويل حزب الله من أنشطة غير مشروعة داخل لبنان وخارجه يُفاقم معاناة الاقتصاد اللبناني، مما يجعل البلاد رهينة لاستراتيجيات الحزب الإقليمية.
إن إنهاء هذه الحرب يتطلب تدخلًا دوليًا جادًا لمعالجة جذور النزاع، ويستلزم تقليص نفوذ حزب الله وإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس شفافة ومستدامة، تضمن الحفاظ على سيادتها وتدعم استقرار اقتصادها ومستقبلها.
*عميد متقاعد في الجيش اللبناني