د. وسام صافي*
بعد أكثر من عقد من الصراع المدمر الذي طال كل مظاهر الحياة في سوريا، باتت البلاد أمام مرحلة مصيرية تتطلب إعادة بناء شاملة تتجاوز الإصلاح المادي إلى صياغة دولة حديثة قادرة على النهوض سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، وثقافيًا. استلام المعارضة للحكم بمؤسسات متآكلة ومجتمع مُنهك يضعها أمام مسؤوليات جسيمة تستلزم مواجهة تحديات كبيرة تتداخل في مختلف الجوانب، بدءًا من تحقيق الاستقرار السياسي، مرورًا بمعالجة الانهيار الاقتصادي، وانتهاءً بإعادة ترميم الهوية الوطنية.
أولًا: التحديات السياسية
غياب الاستقرار السياسي
غياب الاستقرار السياسي يمثل عائقًا رئيسيًا أمام أي تقدم في سوريا، حيث تُعرقل الانقسامات العميقة بين القوى السياسية والمجتمعية التوصل إلى توافق وطني حول مستقبل البلاد، وتزيد حالة عدم الثقة بين مختلف الأطراف الداخلية من تعقيد المشهد، لا سيما في ظل تدخلات خارجية متزايدة من قوى إقليمية ودولية، تسعى لتحقيق أجنداتها الخاصة عبر دعم أطراف متنازعة، مما يحوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة للصراعات بالوكالة، ويُضعف أي مبادرات تهدف إلى بناء دولة مركزية قادرة على إدارة شؤونها الداخلية واستعادة سيادتها.
إعادة بناء المؤسسات السياسية
إن إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة تقوم على مبادئ الشفافية والمساءلة واحترام حكم القانون تُعد خطوة جوهرية لضمان الاستقرار السياسي المستدام، حيث تحتاج سوريا إلى هياكل تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة تعمل بتناغم لضمان تحقيق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين، بالإضافة إلى تبني نظام لامركزي يُعطي السلطات المحلية القدرة على تلبية احتياجات المواطنين بسرعة وكفاءة، ما يُسهم في تعزيز الثقة بين الدولة والشعب ويدعم الوحدة الوطنية في ظل تنوع المجتمع السوري.
ثانيًا: التحديات الاقتصادية
انهيار البنية التحتية وتأثيره على الاقتصاد الوطني
تُعاني سوريا من دمار شبه كامل في بنيتها التحتية نتيجة سنوات الحرب، حيث تعرضت الطرق، الجسور، شبكات الكهرباء والمياه، المنشآت الطبية، والمدارس إلى دمار واسع النطاق، مما أدى إلى تعطيل حركة الإنتاج والخدمات العامة، وجعل تكلفة إعادة الإعمار تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات، وهو عبء يفوق قدرة الدولة وحدها. تحتاج الحكومة إلى التعاون مع المنظمات الدولية والمؤسسات المالية الكبرى لجذب استثمارات طويلة الأجل تدعم عمليات إعادة الإعمار، مع التركيز على إعادة بناء المناطق الأكثر تضررًا لتمكين السكان من العودة واستئناف حياتهم الطبيعية.
ارتفاع معدلات البطالة والفقر وتأثيرها على الاستقرار الاجتماعي
معدلات البطالة والفقر التي تفاقمت بشكل كبير خلال سنوات الصراع تشكل تحديًا مزدوجًا أمام الحكومة، حيث ترتبط بشكل مباشر بانعدام الفرص الاقتصادية وتدهور الخدمات الأساسية. إن توفير فرص عمل حقيقية للشباب، الذين يُمثلون غالبية السكان، من خلال إطلاق مشاريع إنتاجية في قطاعات الزراعة والصناعة والبنية التحتية، يُعد أولوية قصوى لاستعادة النشاط الاقتصادي، كما أن توفير دعم اجتماعي مباشر للفئات الأكثر ضعفًا سيُسهم في الحد من التوترات الاجتماعية، ويعزز الشعور بالأمان والاستقرار.
العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على جهود إعادة الإعمار
إن استمرار العقوبات الدولية المفروضة على سوريا يُمثل تحديًا كبيرًا يعوق الوصول إلى الأسواق العالمية، ويزيد من صعوبة جذب الاستثمارات الأجنبية، مما يجعل الحكومة بحاجة إلى التفاوض مع الأطراف الدولية المعنية لتخفيف هذه العقوبات، مع تقديم خطط واضحة تُظهر التزامها بالإصلاح السياسي والاقتصادي، كما أن تنويع الشراكات الاقتصادية من خلال التعاون مع دول خارج الإطار التقليدي للشركاء الإقليميين والدوليين يُمكن أن يُسهم في تحسين الوضع الاقتصادي تدريجيًا.
ثالثًا: التحديات الاجتماعية
المصالحة الوطنية وبناء الثقة بين المكونات المجتمعية
إن الصراع الطويل الذي مزق النسيج الاجتماعي السوري، وأدى إلى تفاقم الانقسامات الطائفية والإثنية، يتطلب إطلاق برامج مصالحة شاملة تُعزز من قيم التسامح والعيش المشترك، وتُعيد بناء الثقة بين مكونات الشعب السوري. يتطلب هذا استحداث آليات للحوار المجتمعي تشمل جميع الأطراف، مع التركيز على تضميد الجراح ومعالجة القضايا التي تُعيق تحقيق الوحدة الوطنية، مثل الملكيات المتنازع عليها، وحقوق العائدين إلى قراهم ومنازلهم، وتقديم ضمانات بعدم تكرار الانتهاكات السابقة.
عودة اللاجئين والنازحين وإعادة دمجهم في المجتمع
يتجاوز عدد اللاجئين والنازحين السوريين 13 مليون شخص، مما يجعل عودتهم إلى ديارهم تحديًا كبيرًا يرتبط بشكل وثيق بإعادة بناء البنية التحتية، توفير فرص العمل، وضمان الأمن والاستقرار في المناطق التي غادروها. نجاح هذا الملف يعتمد على التنسيق بين الحكومة والمجتمع الدولي لتوفير التمويل اللازم، ووضع خطط طويلة الأجل لإعادة دمج العائدين، مع ضمان تحقيق العدالة في توزيع الموارد والخدمات.
معالجة أزمة فقدان الكفاءات الوطنية
الحرب أجبرت آلاف الكفاءات السورية من أطباء، مهندسين، وأكاديميين على الهجرة، مما أدى إلى إفراغ البلاد من خبرات أساسية تحتاجها لإعادة البناء والتنمية. يتطلب هذا تحديًا مزدوجًا يتمثل في استقطاب هذه الكفاءات للعودة إلى الوطن عبر تقديم حوافز اقتصادية ومهنية، والعمل على تأهيل الكوادر المحلية لسد الفجوات في القطاعات الحيوية.
رابعًا: التحديات الأمنية
نزع السلاح ودمج الفصائل المسلحة في المجتمع
إن استمرار انتشار السلاح خارج إطار الدولة يُشكل تهديدًا وجوديًا لاستقرار سوريا المستقبلية، حيث يتطلب هذا الوضع خطة محكمة لنزع السلاح تدريجيًا، مع تقديم برامج لإعادة تأهيل ودمج عناصر الفصائل المسلحة في المجتمع، سواء عبر تدريبهم على مهن جديدة، أو استيعابهم في الأجهزة الأمنية ضمن معايير صارمة تضمن الالتزام بالقانون.
مكافحة الإرهاب والتطرف
الفراغ الأمني الذي خلّفته سنوات الحرب سمح بازدهار جماعات متطرفة في بعض المناطق، مما يتطلب اعتماد استراتيجية شاملة تشمل تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية، تحديث القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وتطبيق برامج تعليمية وثقافية تستهدف الشباب لتوجيههم نحو قيم الاعتدال والتسامح.
الخاتمة: نحو سوريا جديدة تجمع بين السلام والتنمية
إن بناء سوريا الجديدة يمثل مشروعًا وطنيًا شاملًا يُعالج التحديات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية بشكل متكامل، ويستند إلى رؤية استراتيجية تستمد قوتها من إرادة وطنية جامعة ودعم دولي مستدام. تحقيق هذه الرؤية يتطلب قيادة حكيمة قادرة على توحيد الجهود الوطنية، وفتح أفق جديد لشعب عانى طويلًا، ويستحق حياة كريمة في وطن آمن ومزدهر.
*عميد متقاعد في الجيش اللبناني