سوريا بعد سقوط النظام:
ملامح سيناريوهات مختلفة

03.01.2025
وسام صافي
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

د. وسام صافي*

تحولت سوريا، منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام ٢٠١١، إلى واحدة من أكثر الساحات تعقيدًا في الصراعات الإقليمية والدولية، حيث باتت مركزًا يتقاطع عنده العديد من المصالح الجيوسياسية والطموحات الاستراتيجية التي تسعى القوى الإقليمية والدولية لتحقيقها على حساب وحدة سوريا ومستقبلها. هذا الصراع، الذي بدأ بمطالب شعبية مشروعة للتغيير الديمقراطي، انحدر تدريجيًا ليصبح حربًا شاملة، لم تقتصر على الداخل السوري بل امتدت تداعياتها لتؤثر على دول الجوار وايران ، مع احتمالية أن تقود هذه التوترات إلى حروب إقليمية أوسع نطاقًا.

لماذا سوريا؟

سوريا ليست مجرد دولة ذات موقع عادي في قلب الشرق الأوسط؛ فهي تمثل حلقة وصل حيوية بين دول المنطقة وممرًا استراتيجيًا يربط آسيا بأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. هذا الموقع الجغرافي الفريد يجعل سوريا محط أنظار القوى الكبرى، التي تعتبرها مفتاحًا لتحقيق مشاريعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

ورغم أن موارد سوريا الطبيعية، مثل النفط والغاز، ليست ضخمة مقارنة بجيرانها كالعراق ودول الخليج العربي، فإن احتياطياتها الكامنة، خاصة في شرق البلاد، تضفي عليها أهمية استراتيجية في الصراع على الطاقة.

إلى جانب ذلك، تتميز سوريا بتركيبتها السكانية المعقدة، التي تضم العديد من الطوائف والإثنيات، بما في ذلك السُّنة، الأكراد، الدروز، المسيحيين، السريان، والعلويين، إضافة إلى أقلية شيعية. هذا التنوع جعلها عرضة للتدخلات الخارجية، التي غالبًا ما استغلت هذه التركيبة لتحقيق مصالحها، مما أدى إلى تصعيد الصراعات الطائفية والأيديولوجية داخل البلاد.

الأطراف المتصارعة وأهدافها

روسيا: فقدان النفوذ وتجنب الانهيار الكامل في سوريا

مع اندحار النظام السياسي السوري وانسحاب الفصائل الموالية لإيران، وجدت روسيا نفسها في موقف صعب، حيث تقلص نفوذها الاستراتيجي في سوريا. وعلى الرغم من استمرار وجودها في قاعدتي حميميم وطرطوس، بات هدف موسكو الأساسي الآن هو الحفاظ على ما تبقى من مصالحها العسكرية والاقتصادية في ظل تراجع قدرتها على التأثير في مجريات الصراع. لم تعد روسيا قادرة على فرض أجندتها بشكل كامل، بل تسعى إلى لعب دور الوسيط بين الأطراف الإقليمية والدولية للحفاظ على مكانتها كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط، في محاولة لتجنب انهيار استثماراتها السياسية والعسكرية.

الولايات المتحدة: منع استغلال الفوضى وإعادة تشكيل النفوذ

مع سيطرة المجموعات الراديكالية المعارضة المدعومة من تركيا وقطر على مساحات واسعة من سوريا، تركز الولايات المتحدة على منع هذه القوى من تهديد أمن المنطقة، لا سيما في شمال شرق سوريا الغني بالنفط والغاز. واشنطن تعمل من خلال دعمها المتواصل لقوات سوريا الديمقراطية على ضمان استمرار سيطرتها على المناطق الاستراتيجية شرق الفرات، ومنع تحول سوريا إلى مركز للتنظيمات الإرهابية أو إلى قاعدة متقدمة للنفوذ التركي أو القطري. إضافة إلى ذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى استغلال انسحاب إيران من سوريا لتعزيز عزلتها الإقليمية وإضعاف شبكة نفوذها الممتدة.

تركيا وقطر: فرض الهيمنة عبر المجموعات المعارضة

في ظل سيطرة المجموعات الراديكالية المعارضة المدعومة من تركيا وقطر، أصبح هدف أنقرة الأساسي تعزيز هيمنتها على الشمال السوري لضمان حماية أمنها القومي من أي تهديد كردي، مع استغلال الأوضاع لتوسيع نفوذها الإقليمي. تركيا تسعى إلى تحويل المناطق الشمالية إلى عمق استراتيجي دائم يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية، بينما تدعم قطر هذه المجموعات كجزء من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها في الصراعات الإقليمية.

إسرائيل: استكمال مشروع السيطرة على الجنوب وتأمين الحدود

مع انسحاب الفصائل الموالية لإيران وحزب الله من الجنوب السوري، كثّفت إسرائيل وجودها في محافظة القنيطرة وجبل الشيخ، حيث تهدف إلى استغلال الفراغ الأمني لتعزيز سيطرتها على هذه المناطق الاستراتيجية. تعمل إسرائيل على تحويل الجنوب السوري إلى منطقة عازلة خالية من أي تهديد إيراني أو من قوى معادية، في حين تستغل الوضع لترسيخ احتلالها للجولان المحتل دون مواجهة ردود فعل إقليمية قوية.

الأكراد: تراجع الطموحات وتحديات الاستقلال

بعد انسحاب الولايات المتحدة جزئيًا وتغير موازين القوى في الشمال، أصبحت تطلعات الأكراد لإقامة كيان مستقل أو منطقة حكم ذاتي تواجه عقبات كبيرة. الضغط التركي المستمر، إلى جانب عودة سيطرة المجموعات الراديكالية المدعومة من أنقرة، جعل الأكراد يعتمدون بشكل متزايد على الدعم الأميركي المحدود لحماية مناطقهم في شرق الفرات. ومع ذلك، يواجه الأكراد الآن تحديًا مزدوجًا يتمثل في الحفاظ على مكتسباتهم السياسية والاقتصادية وسط تزايد الضغوط الإقليمية والمحلية.

سيناريوهات مستقبل سوريا بعد سقوط النظام

السيناريو الأول: التقسيم الفعلي

في حال استمرار الصراع الإقليمي والدولي في سوريا دون تحقيق توافق سياسي حقيقي، قد تتجه البلاد نحو تقسيم فعلي يتمحور حول خطوط نفوذ واضحة، حيث تتحول المناطق الجنوبية إلى ساحة لنفوذ إسرائيلي مباشر يمتد إلى معبر البوكمال، بهدف مواجهة النفوذ الإيراني وقطع خطوط الإمداد بين طهران وسوريا ولبنان. في الشمال، ستعزز تركيا سيطرتها عبر مناطق آمنة تُدار من قبل فصائل موالية لها، مع التركيز على مواجهة القوات الكردية واحتواء اللاجئين، بينما تبقى المناطق الشرقية الغنية بالنفط والغاز تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بدعم أمريكي مباشر، مما يجعلها ورقة ضغط استراتيجية ضد النظام السوري وحلفائه.

في الوقت ذاته، قد يتحول الوسط السوري إلى منطقة صراع دائم بين القوى الراديكالية والمتطرفة في ظل غياب سلطة مركزية، ما يؤدي إلى تفاقم الفوضى الأمنية وعودة نشاط الجماعات الإرهابية مثل داعش. هذا التقسيم سيؤدي إلى تكريس النفوذ الإيراني في مناطق النظام والساحل السوري تحت الحماية الروسية، مما يعمق الانقسامات الداخلية ويُطيل أمد الأزمة.

على الصعيد الإقليمي، ستواجه الدول المجاورة مثل الأردن والعراق تحديات أمنية متزايدة على حدودها مع سوريا، في حين أن استمرار التقسيم سيمنع عودة اللاجئين ويزيد من الأعباء على دول الجوار وأوروبا، مما يُكرّس سوريا كساحة دائمة للصراعات الإقليمية والدولية ويُفقدها أي فرصة مستقبلية للتوحد.

السيناريو الثاني: عودة الفوضى والنفوذ الإيراني

في حال فشل المعارضة السورية في تحقيق الاستقرار وتشكيل حكومة مركزية قوية، ستشهد البلاد فراغاً سياسياً وأمنياً يُمهّد لعودة الفوضى، مما يتيح لإيران تعزيز نفوذها عبر أذرعها مثل الحرس الثوري وحزب الله والميليشيات العراقية. هذا التوسع الإيراني سيُركز على السيطرة على المناطق الاستراتيجية في سوريا، مثل الجنوب المتاخم لإسرائيل ومناطق خطوط الإمداد نحو لبنان، مما يضع المنطقة أمام خطر تصاعد النزاعات الطائفية والإقليمية.

في ظل هذا السيناريو، ستتفاقم التداعيات على الدول المجاورة، مثل الأردن والعراق ولبنان، التي ستتأثر بالفوضى الأمنية والاقتصادية، في حين أن إسرائيل ستكثف عملياتها العسكرية لمواجهة التهديد المتزايد على حدودها. استمرار حالة الفوضى هذه سيزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، مع تصاعد النزوح الإنساني وضغط اللاجئين، ودخول القوى الدولية في مواجهة النفوذ الإيراني، مما يعيد سوريا إلى دائرة صراعات محلية ودولية لا تنتهي.

السيناريو الثالث: الدولة المدنية العادلة

يمثل هذا السيناريو الأمل الأفضل لسوريا للخروج من دوامة الحرب والانقسام، ويقوم على بناء نظام ديمقراطي مدني يُعزز قيم العدالة والمواطنة، ويضمن تمثيلاً عادلاً لجميع المكونات والإثنيات دون استثناء. في إطار هذا النظام، يتم صياغة دستور جديد يقوم على مبادئ المساواة أمام القانون، واحترام الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الدين والرأي والتعبير، إضافة إلى ضمان استقلال القضاء ونزاهة العملية السياسية.

يتطلب تحقيق هذا السيناريو توافقاً داخلياً بين مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية السورية، ما يعني تجاوز المصالح الطائفية والفئوية الضيقة لصالح مشروع وطني جامع يضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار. كما يتطلب وجود إرادة دولية صادقة تدعم هذا التحول، من خلال الضغط على القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الصراع السوري لوقف التدخلات السلبية، وتوجيه الدعم نحو بناء مؤسسات الدولة.

في ظل هذا السيناريو، ستُبنى مؤسسات الحكم على أساس الكفاءة والمساءلة، بعيداً عن المحاصصة الطائفية أو الحزبية، وستُطلق برامج مصالحة وطنية شاملة لمعالجة جراح الماضي، وإعادة دمج المناطق والفئات التي عانت من التهميش أو الانقسام. كما سيتم التركيز على إعادة الإعمار بشكل يخلق فرصاً اقتصادية متساوية للجميع، ويُعيد المهجّرين واللاجئين إلى وطنهم بكرامة.

نجاح هذا النموذج يعتمد أيضاً على إصلاح شامل للقطاع الأمني، بحيث تتحول الأجهزة الأمنية إلى مؤسسات تحمي المواطن وحقوقه بدلاً من أن تكون أدوات للقمع. كما ينبغي الحد من نفوذ الميليشيات والجماعات المسلحة، ودمج أفرادها ضمن مؤسسات الدولة وفق معايير مهنية.

الدولة المدنية العادلة في هذا السياق لن تكون فقط مشروعاً داخلياً، بل ستُعزز دور سوريا كدولة مسالمة وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، حيث تسعى إلى بناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة بدلاً من أن تكون ساحة للصراعات الإقليمية.

مستقبل سوريا بين التحديات والفرص

إن مستقبل سوريا يتطلب رؤية شاملة لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع وبناء سلام مستدام. فقد أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية وتمزيق النسيج الاجتماعي، ما يجعل إعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي مهمة بالغة الصعوبة، خاصة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية التي حولت البلاد إلى ساحة صراع على النفوذ.

رغم هذه التحديات، تملك سوريا إمكانيات هائلة، بما في ذلك موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتنوعها الثقافي وإرادة شعبها الصامد، مما يمكنها من التحول إلى مركز إقليمي للتجارة والطاقة إذا توفرت الظروف المناسبة. لكن تحقيق ذلك يتطلب خارطة طريق واضحة تشمل صياغة دستور جديد يؤسس لدولة مدنية تقوم على مبدأ المواطنة والمساواة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل شفاف وعادل، وإطلاق برامج مصالحة وطنية تعالج آثار الماضي وتضمن التلاحم بين مكونات المجتمع.

على المستوى الإقليمي، استقرار سوريا يمثل شرطًا أساسيًا لاستقرار المنطقة بأكملها، حيث يمكن لسوريا القوية أن تلعب دورًا إيجابيًا في تعزيز السلام والتنمية من خلال شراكات اقتصادية وأمنية مع دول الجوار. ومع ذلك، فإن إنهاء الصراع لا يعتمد فقط على السوريين، بل يتطلب إرادة حقيقية من القوى الدولية والإقليمية التي كانت طرفًا في الصراع، لدعم استقرار طويل الأمد دون أجندات هيمنة سياسية.

ختامًا، سوريا الجديدة يجب أن تكون دولة حديثة قائمة على العدالة والمساواة، تعيد لمواطنيها كرامتهم، وتصبح نموذجًا يحتذى به في بناء السلام والتنمية في الشرق الأوسط.

*عميد متقاعد في الجيش اللبناني