غزة بعد العاصفة:
ملحمة الصمود والكرامة

22.01.2025
Twitter icon
Facebook icon
LinkedIn icon
e-mail icon
شارك هذه الصفحة مع آخرين
Print Friendly, PDF & Email

بيروت - الاقتصاد والأعمال

في فجر يومٍ شاحب تهادى فوق أنقاض غزة اتفاق هش لوقف إطلاق النار. كانت المدينة التي أرهقتها الحرب قد اتشحت بلون الرماد، وأرضها التي شهدت صراع الحياة والموت تنبض بإرادة لا تنكسر. غزة ، حيث الشوارع التي هجرها المارة صارت معابر للألم، وحيث كلّ جدار يحمل وشم الحرب، نهضت من تحت الركام لتكتب فصلاً جديداً في حكاية لا تنتهي عن شعبٍ يستمد من الكارثة حياةً، ومن الموت عزيمة.

في غزة، لا تُقاس الحياة بما ينقصها، بل بما يفيض عنها من صمودٍ وكرامة. في كلّ حيّ، تجد وجوهاً تشهد على سنوات من التحدي، وأياد ما دمرته القذائف. لم تكن الحرب على غزة مجرد عدوانٍ عابر؛ كانت محاولةً لإخماد شعلة الصمود التي تسكن أهلها. ومع ذلك، لم تهن راية الحياة يوماً.

وقف سكان القطاع بين أنقاض منازلهم التي تحوّلت إلى رماد، يبحثون عن صورٍ نجت، أو كتابٍ لم تمسه النيران، أو حجر يمكن أن يكون بدايةً لجدارٍ جديد. إنهم يبنون لا مجرد منازل، بل تاريخاً يمتدّ عبر الأجيال، ويؤكد أن غزة ليست مجرد أرضٍ، بل هوية تتحدى الإنكسار.

في تلك اللحظات التي أعقبت الهدوء، كانت غزة تقدم درساً للعالم: الشعوب الحقيقية تُقاس بقوة تماسكها في الأزمات. فتحت البيوت التي لم تصلها القذائف أبوابها للنازحين، وامتدت أيادٍ بسيطة لتساعد في رفع الأنقاض. في كل زاوية، تجلت روح التضامن بأبهى صورها .

تلاميذ صغار عادوا إلى أحيائهم حاملين دفاترهم التي احترقت أطرافها، وعمالٌ انطلقوا بأدواتٍ بسيطة لإزالة آثار العدوان، كل مشهد في غزة يصرخ بالحقيقة الكبرى: لا قوة في العالم تستطيع هزيمة شعبٍ متكاتف.

رغم الدماء التي لم تجفّ بعد، خرج أهل غزة إلى الشوارع في ليلة إعلان وقف إطلاق النار، يرفعون أعلامهم كأنها رايات النصر. لم يكن الاحتفال بالاتفاق فقط، بل بالحياة ذاتها. الأطفال الذين كانوا يختبئون من القصف تحت السلالم أصبحوا يركضون في الأزقة، والنساء اللواتي بكيْن على أحبابهن وقفن في صمتٍ مهيب، كأنهن يعلنّ للعالم أن الحزن لا يكسرهن.

كان الاحتفال حذراً، لأن أهل غزة يدركون أن هذا الاتفاق ليس سوى استراحة قصيرة في معركة طويلة. لكنهم أيضاً يعلمون أن كلّ لحظة من الهدوء هي فرصة للحلم، ولو تحت سماء مشبعة برائحة البارود.

غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، إنها قصيدة تكتبها أجيالٌ تتوارث العزيمة. إنها صوت اللاجئ الذي يحمل مفتاح بيته القديم، وصوت الأم التي تعلم أطفالها أن الكرامة أغلى من الحياة. غزة تقول للعالم: نحن لسنا ضحايا، نحن رسل للصمود.

رغم الحصار والدمار، يحمل أهل غزة مشاعل النور في ظلمات الحروب. كل جدار يُعاد بناؤه يحمل توقيع الكرامة، وكل نافذة تُفتح على سماء غزة تعلن أن هذه الأرض لا تقبل الهزيمة.

إلى العالم، تقول غزة: "نحن هنا، رغم كلّ شيء. أنتم ترون فينا شعباً منكوباً، لكننا نرى في أنفسنا أمةً لا تعرف الانكسار. نحن نبني من الركام حياةً جديدة، نحول الألم إلى قوة، واليأس إلى أمل. لا نطلب شفقة بل نريد عدالة. لا نبحث عن مُساعدات مؤقتة، بل نطالب بحقنا في حياةٍ كريمة ، في حريةٍ وعدالةٍ وأرضٍ لا يهددها الاحتلال".

غزة، كعصفورٍ جريح، تحلّق بجناحٍ مكسور، لكنها تظلّ في السماء. تنزف الأرض، لكن الجذور فيها أعمق من القنابل. تهتز الأبنية، لكن القلوب التي تسكنها أقوى من الحديد. غزة ليست قصة تنتهي بتوقف القصف، إنها بداية لكلّ من يؤمن بأن الحياة تستحق أن تُعاش بكرامة.

في النهاية، ستظل غزة أيقونةً للصمود، مدينةً تُعانق البحر وتحاكي الأفق، مدينةً تُعيد بناء نفسها مع كل فجر، لتذكر العالم أن الشعوب التي تتشبث بحقها لا تموت أبداً. غزة ليست مجرد مكان، إنها روح تسكن القلوب، مُلهمة لكلّ من يؤمن بالحرية والعدالة.