حاوره إياد ديراني
في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات وأحداث تاريخية متسارعة، خصوصا منها التوترات الاقتصادية، والحروب، والسياسات الوطنية الاقتصادية الحمائية، والتغيرات على المستوى الجيوسياسي، تبرز التكنولوجيا وضمنا ثورة الذكاء الاصطناعي مرة أخرى كمصدر للحلول وتعزيز التعاون في شتى الميادين خصوصا منها الاقتصادي. هذه ليست المرة الأولى التي تُثبت فيها التكنولوجيا أنها قادرة على تخفيف وقع الأزمات، وإيجاد أرضية لتحقيق التنمية الاقتصادية المشتركة وتعزيز التعاون الدولي، وهو ما شهدناه خلال أزمة كورونا. لكن السؤال اليوم هو كيف يمكن أن تؤدي التكنولوجيا هذا الدور الحيوي في البلدان العربية، ووفق أي مسارات ومنهجيات وما هو دور تدريب الموارد البشرية في عصر الذكاء الاصطناعي؟ الاقتصاد والأعمال التقت الرئيس التنفيذي لشؤون الإيرادات والتحوّل في "تكنولدج" نضال أبو لطيف، وحاورته في هذه القضايا، وكان هذه اللقاء.
يستهل أبو لطيف اللقاء بالتأكيد على أن التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية تشكل تحديا وفرصة في الوقت نفسه. ويقول: "صحيح أن التوترات الجيوسياسية تؤدي في بعض الأحيان إلى اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، مما قد يبطئ تبنّي التكنولوجيا في بعض الدول التي تعتمد على استيراد التقنيات والمعدات. إلا أن هذه التحديات تدفع من جهة أخرى دولا عربية مثل الإمارات والسعودية وغيرهما من الدول الرائدة، إلى تعزيز سياساتها الصناعية الرقمية والتركيز على الحلول المحلية وتدريب الموارد البشرية. وهو ما يلعب دورا في تسريع وتيرة التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي من جهة، والاتكال على القدرات الوطنية لتطوير حلول رقمية جديدة من جهة أخرى. وأنا على ثقة أن الابتكار التكنولوجي وتبنّي الذكاء الاصطناعي والتدريب الرقمي للموارد البشرية، يشكل بوابة عبور بلدان المنطقة نحو العالمية في كل المجالات".
الذكاء الاصطناعي والجيو-بوليتيك
وحول علاقة الذكاء الاصطناعي بالجوانب الجيوسياسية، ودوره في تقريب وجهات النظر وتعزيز التعاون الدولي، يقول أبو لطيف: "عندما تتعاون الحكومات لتطوير الذكاء الاصطناعي، فإنها توفّر أرضية عالمية مشتركة لتذليل الصعوبات وفتح الآفاق أمام القطاعين العام والخاص. ليس هذا فحسب، إذ أن الحكومات قادرة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتعزيز الاستثمار في مجال البحث والتطوير وبناء القدرات وتطوير السياسات وتنمية الموارد البشرية من خلال التدريب الرقمي، وتحقيق تحوّل إيجابي واسع يشمل كل القطاعات الاقتصادية والسياسية".
ويتابع قائلا: "هنا تحديدا، أي في جانب التعاون وتحقيق الفوائد الجيوسياسية، تبرز التجربة الناجحة للبلدان العربية، إذ لطالما شكلت حكومات المنطقة قاطرة المشاريع الكُبرى في عالم التكنولوجيا. واليوم تُثبت مرة أخرى أنها "المايسترو" السبّاق والقادر على الاستثمار في المشاريع التكنولوجية وتبنّي الذكاء الاصطناعي، وتشجيع التعاون الدولي، وتهيئة الظروف لانخراط القطاع الخاص في هذه المسيرة الرقمية، وبذل الجهود لتدريب وتأهيل الموظفين من خلال رفع قدراتهم الرقمية وصقل خبراتهم في هذا المجال. وربما أهم ما تفعله الحكومات العربية في هذه الفترة هو توفير البيئة الحاضنة لإطلاق طاقات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهذا يشمل تعزيز البنية التحتية الرقمية وإصدار التشريعات والقوانين، ودعم الهيئات الناظمة والالتزام بأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي".
ريادة تكنولوجية عربية
ويضيف: "تبرز في هذا الإطار مشاريع عديدة تؤكد تبنّي الامارات والسعودية وقطر وعُمان وغيرها من البلدان العربية لنهج جديد، يطمح إلى تطوير القدرات البشرية الرقمية وصناعة الحلول الرقمية لدعم مسيرة التحوّل الرقمي. الامارات مثال ساطع في هذا المجال، وثمة عشرات المشاريع التي تدلّ على النهج الاماراتي في ما يتعلق بالحلول الرقمية. لقد أطلقت الامارات عددا كبيرا من مبادرات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مدينة المستقبل، وبرنامج التحوّل التكنولوجي في القطاعات الصناعية والإنتاجية، ومشروع الإمارات للفضاء وغيرها من المشاريع مثل المدن الذكية الجديدة والصحة الذكية والتعليم الذكي. الجدير بالذكر هنا أن الامارات تضع في صلب كل مشروع قسما يتعلق بتطوير المهارات الرقمية في شتى المجالات، ومن خلال هذه السياسة، ترسّخ الامارات دورها كمصدر للخبرات والحلول التكنولوجية".
أما في السعودية، يضيف أبو لطيف: "تتقدم المملكة بسرعة في التطوير التكنولوجي الشامل، وسواء تعلق الأمر بمشاريع مثل "نيوم" المدينة التي ستكون الأكثر تطورا تكنولوجيا في العالم، أو "سدايا" التي تسعى إلى تطوير قطاع البيانات والذكاء الاصطناعي في المملكة، أو برنامج تطوير الصناعات الوطنية والخدمات اللوجستية، فإن المملكة أثبتت أنها تسير على نهج واضح لحجز مقعد بين مطوّري ومصدّري التكنولوجيا. أما في عُمان، فتمضي شركة عُمانتل بتنفيذ المشاريع الرقمية السباقة، إذ تتعاون الشركة حاليا مع تكنولدج لتنفيذ برنامج تدريب وتأهيل في مجالي الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات. ويهدف المشروع إلى تزويد الموظفين بالمهارات الرقمية المتقدمة لدعم طموحات عُمانتل على مستويي التحوّل الرقمي والنمو. وتأتي هذه المبادرة تماشيا مع "رؤية عمان 2040"، التي تُولي أهمية قصوى لتحقيق التنويع الاقتصادي، والتحوّل الرقمي، وتنمية الموارد البشرية باعتبارها محركات رئيسية لتحقيق التقدم الوطني".
ويقول أبو لطيف: "على غرار الامارات والسعودية وعُمان، ثمة عدد من البلدان العربية الأخرى التي تنفّذ مشاريع رقمية وتكنولوجية لدعم التنمية الاقتصادية ومواكبة التطورات العالمية. قطرا الرائدة في هذا المجال، أعلنت من خلال وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن توسيع مبادرة تدريب وتطوير المهارات التي تُجريها بالشراكة مع تكنولدج ومايكروسوفت، بهدف تسريع تبنّي الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الحكومية القطرية. وانتهز الفرصة هنا، لأتوجه بالتهنئة إلى الوكالة الوطنية للأمن السيبراني في قطر على تعزيز قيادتها المتواصل لقدرات ومرونة الأمن السيبراني في البلاد. إن ما يميّزهم بشكل خاص هو تفانيهم لتوفير التوعية للجميع. إذ ومن خلال الاستثمار في برامج تنمية المهارات مثل "معسكر تدريب الخريجين الجُدد" الذي كنّا جزءا منه في تكنولدج، فإنهم يساهمون بتهيئة الجيل القادم من المتخصصين في الأمن السيبراني، ويضمنون وصول الوعي حول الأمن السيبراني إلى كل مستوى من مستويات المجتمع".
مركز عالمي للتكنولوجيا
ويتابع قائلا: "البلدان العربية مؤهلة للعب دور كبير في مستقبل التكنولوجيا والحلول الرقمية حول العالم، لا بل هي قادرة على التحوّل إلى مركز عالمي للتكنولوجيا. وهي تضع نصب أعينها تنفيذ كل المشاريع المطروحة لتحقيق تنويع اقتصادي بهدف تقليل الاعتماد على النفط من جهة وفتح آفاق جديدة للنمو الاقتصادي من جهة أخرى. هذه السياسات تساهم في توفير فرص العمل الجديدة وتطوير قدرات الموارد البشرية الوطنية وتاليا تحسين جودة حياة الناس، وحجز مقعد بين الدول التي تركز على الابتكار التكنولوجي، والتحوّل إلى مركز إقليمي وعالمي في مجال التكنولوجيا والحلول الرقمية".
ويضيف: "الدول التي تملك بيئة استثمارية صحّية ومرنة وبنية تحتية رقمية قوية تساهم بتعزيز قدراتها على جذب الفرص. وهذه المرونة ستساعد على تحفيز تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلدان العربية، في الوقت الذي تجنح فيه بعض الدول إلى تبنّي سياسات اقتصادية وتجارية حمائية. ولا شك أن الدول العربية تستطيع الاستفادة من إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية لتكون هي بذاتها عقدة رئيسية ضمنها، خصوصا وأن الشركات العالمية تبحث باستمرار عن أسواق بديلة ومستقرة مثل أسواق المنطقة".
ويشرح قائلا: "في كل مرة نشهد فيها توترات تجارية عالمية وتوجّهات اقتصادية حمائية، نرى أن الدول تلجأ إلى محاولة توطين الصناعات التكنولوجية، وهذا الأمر يساعد الدول العربية على تعزيز نشاطات البحث والتطوير والابتكار والإبداع لتعويض أي نقص على مستوى التكنولوجيا. ونحن في تكنولدج نرى أن هذه الحلول تشجّع أيضا على تطوير الكفاءات المحلية والاعتماد على التعاون والابتكار. ولهذا نعتقد أن تعاون البلدان العربية مع شركائها التكنولوجيين العالميين مثل تكنولدج، يفتح أمامها فرصا للاستفادة من التكنولوجيا في تطوير الموارد البشرية، خصوصا من خلال التعليم والتدريب الرقمي، فضلا عن التعاون في مجالات مثل الأمن الرقمي والذكاء الاصطناعي والخدمات المُدارة والحلول الرقمية".
ويقول أبو لطيف: "من خلال فريق عمل عالمي يضم أكثر من 5.5 آلاف خبير تقني، تتعاون تكنولدج بنجاح مع الحكومات والشركات ومزوّدي حلول التكنولوجيا لتسهيل مسارات الأعمال على كامل خارطة المشهد الرقمي العالمي المتداخل، معتمدة على أكثر من 19 مركزا حول العالم. وهو ما يجعلها شريكا موثوقا لتحقيق الابتكار والنجاح في عدد كبير من المجالات من بينها الحلول التكنولوجية الشاملة، حلول تجارب المستهلكين والموظفين مع الخدمات الرقمية، التحوّل الرقمي، الأمن السيبراني، التدريب والاستشارات إضافة إلى الخدمات المُدارة وغيرها من الخدمات".
ويضيف: "يمكن للبلدان العربية رفع جهوزيتها لهذا النوع من المشاريع والطموحات من خلال رفع مستوى الاستثمار في البحث والتطوير، وإطلاق سياسات حكومية داعمة للابتكار التكنولوجي، والتركيز على التطوير المحلّي للتكنولوجيا والتعامل مع نقص الكفاءات التكنولوجية المتخصّصة وتعزيز التعاون مع القطاع الخاص وتطوير تجارب الهيئات الناظمة. كذلك ثمة خطوات أخرى يمكنها لعب دور مساعد، مثل تحفيز الشركات الناشئة من خلال الإعفاءات الضريبية والتمويل الحكومي، وإنشاء مراكز بحث وتطوير مشتركة بين الجامعات والشركات وتحديث القوانين لتسهيل نشاطات بيئة الأعمال التكنولوجية".
الاستثمار في الانسان
ويعود أبو لطيف للتركيز على أهمية الموارد وتدريب المهارات، فيقول: الدورة الأخيرة من "دافوس"، التي عُقدت تحت شعار "التعاون من أجل عصر ذكي"، ناقش المشاركون عددا كبيرا من القضايا من بينها "الاستثمار في البشر". وهذا بند بالغ الأهمية عندما يتعلق الأمر بالبلدان الناشئة. وقد أكد المشاركون أن "الاستثمار في البشر" هو حجر الأساس لأي تنمية اقتصادية مستدامة. وأعتقد أننا في العالم العربي، نستطيع الاستفادة من نهج يركز على تطوير التعليم وربطه باحتياجات سوق العمل، تعزيز المهارات الرقمية والتكنولوجية من خلال التدريب، ودعم رواد الأعمال والشركات الناشئة، وتمكين المرأة والشباب في قطاع التكنولوجيا".
ويختم أبو لطيف اللقاء من حيث بدأ اللقاء، وتحديدا عند الفرص التكنولوجية الناشئة التي يمكن أن تساعد في تعافي الاقتصاد العالمي والتخفيف من وقع الأزمات العالمية، ومدى مساهمة الأزمات في تسريع تبنّي الحلول التكنولوجية الحديثة، ويقول: "أنا متفائل بطبيعتي، وأرى أن بإمكان العالم تخطّي مرحلة التحديات من خلال التعاون، حتى ولو حدث بعض التباعد التجاري بين القوى الكبرى. ولا ننسى أن الأزمات تساهم دائما في تسريع تبنّي التكنولوجيا، كما رأينا خلال جائحة كورونا التي دفعت نحو الرقمنة واعتماد تقنيات مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي بشكل واسع جدا، وبين أيدينا اليوم الكثير من الأدوات لتعزيز التعاون بين الجميع".