يشهد الدين العالمي مستويات قياسية غير مسبوقة، حيث تلعب الأسواق الناشئة دورًا أساسيًا في تحديد مسار الدين العام التصاعدي. ورغم تباطؤ وتيرة الاقتراض بسبب حالة عدم اليقين الاقتصادي السائدة، يظل الدين يشكل عبئًا متزايدًا على العديد من الدول، مما يؤدي إلى ارتفاع مقلق في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومع التوقعات باستمرار تفاقم الضغوط الاقتصادية، تبرز الحاجة الملحة لتعزيز قدرة الأسواق الناشئة على تحمل أعباء هذه الديون، مما يستدعي بناء قدرة اقتصادية قوية تمكنها من مواجهة التحديات المالية العالمية وحماية اقتصاداتها من الصدمات المستقبلية.
ديون عالمية متصاعدة
في عام 2024، ارتفع الدين العالمي بنحو 7 تريليونات دولار، ليصل إلى 318 تريليون دولار، وهو أعلى مستوى مسجل في نهاية العام. ورغم هذا الارتفاع، فإنه كان أقل بكثير مقارنة بالعام السابق، عندما أدى التيسير النقدي الذي اتبعه الاحتياطي الفيدرالي إلى زيادة كبيرة في الاقتراض تجاوزت 16 تريليون دولار. ومع تراجع توقعات الأسواق بشأن خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، في ظل المخاوف من تأثير السياسات التجارية والهجرة الأميركية على التضخم، يظهر تباطؤ وتيرة الاقتراض العالمي كإجراء احترازي في ظل حالة عدم اليقين الحالية.
من الجدير بالذكر أن الربع الرابع من عام 2024 شهد انخفاضًا ملحوظًا في مستويات الديون. وقد شكلت الأسواق الناشئة نحو 65 في المئة من الزيادة في الدين العالمي لعام 2024. وفي الأسواق المتقدمة، تركز تراكم الديون بشكل رئيسي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا والسويد. أما بالنسبة للقطاعات، فقد كانت الحكومات العامة هي المصدر الرئيسي لهذه الزيادة، حيث تجاوزت مستويات الديون الحكومية العالمية 95 تريليون دولار، مقارنة بـ 70 تريليون دولار قبل جائحة 2019.
ضغط الديون المتزايد
من جهة أخرى، ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 1.5 نقطة مئوية، لتصل إلى نحو 328 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الزيادة هي الأولى في النسبة منذ عام 2020، حين تسببت الجائحة في ارتفاع كبير تجاوز 35 نقطة مئوية في هذه النسبة. وعلى الرغم من أن الزيادة المستمرة في الديون كانت المحرك الرئيسي لارتفاع النسبة في العام الماضي، فإن تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم في عام 2024 قد ساهم أيضًا في الضغط التصاعدي على نسب الديون.
تباطؤ تراكم الديون
هذا ومن المتوقع استمرار تباطؤ تراكم الديون العالمية، خاصة في النصف الأول من عام 2025. ومع بقاء حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي عند مستويات مرتفعة، متجاوزةً تلك التي تم تسجيلها في ذروة الجائحة، تظل تكاليف الاقتراض مرتفعة، مما قد يحد من طلب القطاع الخاص على الائتمان. من المتوقع أن يظل تراكم الديون الحكومية مرتفعًا فوق 5 تريليونات دولار في عام 2025، ويُعزى ذلك بشكل رئيسي إلى الولايات المتحدة والصين والهند وفرنسا والبرازيل. وقد تشهد هذه الأرقام مزيدًا من الارتفاع في ظل زيادة المطالبات بالتحفيز المالي وزيادة الإنفاق العسكري في منطقة اليورو، بما في ذلك المناقشات المتزايدة حول تعديل قاعدة "مكابح الديون" في ألمانيا، والتي أصبحت تُعتبر عاملاً مؤثرًا في أداء الاقتصاد الألماني.
العجز المالي تحت المراقبة
أصبح التدقيق المتزايد على التوازنات المالية، لاسيما في البلدان ذات المشهد السياسي المتقلب، سمة بارزة في السنوات الأخيرة، حيث بات يشكل عاملًا حاسمًا في تشكيل السياسات الاقتصادية والمالية. وعلى الرغم من أن ردود الفعل السوقية على زيادة مستويات الديون الحكومية في الولايات المتحدة كانت معتدلة نسبيًا، ورغم أن دينها لا يزال يسير في مسار "غير مستقر"، فإن النشاط الاقتصادي القوي ونمو الإنتاجية، إلى جانب الوضع الآمن للسندات الأميركية، لا يزال يعوض الضعف المتزايد في التوازنات المالية الأميركية. ومع ذلك، فإن هذا لا ينطبق على جميع البلدان، حيث كانت ردود الفعل السوقية على المناقشات المتعلقة بالميزانية في المملكة المتحدة وفرنسا أكثر حدة، لدرجة أنها أسفرت عن نتائج سياسية هامة.
الأسواق الناشئة وبناء الصمود
شهد الدين الإجمالي في الأسواق الناشئة زيادة قدرها 4.5 تريليون دولار في عام 2024، ليصل إلى أعلى مستوى على الإطلاق، متجاوزًا 245 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أنه من غير المتوقع حدوث ضغوط كبيرة على الديون في المدى القريب، فإن العديد من الأسواق الناشئة شهدت تدهورًا ملحوظًا في قدرتها على تحمل الدين خلال السنوات الأخيرة. فقد أصبح الفارق في النمو بين هذه الأسواق والاقتصادات الناضجة أقل وضوحًا، في وقت تستمر فيه نفقات الفوائد الحكومية في الارتفاع.
هذا وستحتاج الأسواق الناشئة إلى إعادة تمويل ديون قياسية تبلغ 8.2 تريليون دولار هذا العام، مع ما يقارب 10 في المئة من هذه الديون مقومة بالعملة الأجنبية. وقد تؤدي التوترات التجارية المتصاعدة وقرار إدارة ترامب بتجميد المعونة الأميركية، بما في ذلك تقليص التمويل لوكالة" “USAID، إلى تحديات سيولة كبيرة، مما يقلل من القدرة على إعادة تمويل الديون والوصول إلى الديون المقومة بالعملات الأجنبية. ويبرز هذا التحدي الحاجة المتزايدة لتحفيز الإيرادات المحلية، لبناء قدرة أكبر على الصمود أمام الصدمات الخارجية.
ويعتمد النجاح في هذا المجال بشكل كبير على تعزيز الشفافية في الميزانيات الحكومية والديون، بالإضافة إلى تحسين برامج علاقات المستثمرين. في ظل الخلفية السياسية العالمية الصعبة، يمكن أن يوفر تعزيز قدرة البنوك التنموية متعددة الأطراف والمؤسسات المالية التنموية على تعبئة رأس المال الخاص مساحة تنفس حاسمة للأسواق الناشئة والدول النامية.